“أحلام يومية” ليوسف رقة ” قادرون على توليد مجتمع مختلف” مقالة نقدية للكاتب الكبير علي أسد دهيني
“أحلام يومية” ليوسف رقة
قادرون على توليد مجتمع مختلف
علي .أ. دهيني
“أحلام يومية”
مسرحية للمخرج المسرحي والإذاعي يوسف رقة، جرى حفل توقيعها في خلال الأنشطة التي رافقت معرض الكتاب العربي هذه السنة في بيروت، كتب المؤلف في صفحتها الأولى إهداءاً معبراً عن ألم في النفس وجرح عميق في الذاكرة. شاء من خلال هذا الإهداء أن يوقظ ذاكرة غفت أو تغافت، عن أسماء لعبت دوراً في أرشيف الثقافية الفنية ـ بخاصة المسرح ـ في الحياة الثقافية اللبنانية، فقد أهدى مسرحيته هذه إلى رفاق عاش معهم العصر الذهبي للمسرح اللبناني: جلال خوري، روجيه عساف، ويعقوب شدراوي.
وتمت الإشارة في مقدمتها، إلى أنها كتبت “للمشاركة في مسابقة للتأليف المسرحي لعام 2015 أعلنتها الهيئة العربية للمسرح في الشارقة”. ويقول الكاتب في مقدمته، قبل التقديم الذي كتبه للمسرحية الأستاذ والناقد المسرحي عبيدو باشا، أنه كتبها للعرض وليس للنشر، ولكن، وفي هذا الزمن الرديء، وجدت من الأجدى نشرها، ربما بسبب جرأة موضوعاتها” التي تجعل من الصعب عرضها وفقا لنظرية “المؤامرة” التي هي بمثابة الضربة القاضية لكثير من الأعمال الإبداعية بسبب رفعها كبطاقة حمراء في وجه متمرد على هذا الواقع أراد رفع صوته منكراً ما يجري على أرض الواقع من تفكيك اجتماعي وثقافي وحتى سياسي. ويقول رقة “أيام الشباب، قدمنا مسرحية من صفحة ونصف الصفحة فقط.. نص تلك المسرحية كان يقتصر على قصيدة للشاعر محمود درويش، هي قصيدة العودة”.
هذه الإشارات التي أومأ المخرج (رقة) إليها تأخذنا إلى السؤال:
هل يكفي للأعمال والنشاطات الثقافية جودتها وقيمتها الفكرية ـ الحداثية أو الكلاسيكية ـ أن تكون رافعة لها تؤمن لها الحشد الجماهيري الذي تستحق، كما وهل لها القدرة على أن تتبوأ مكانها في الإعلام والرعاية انطلاقا من قيمتها كمادة ثقافية غنية بالعطاء الفكري؟
بل هل يمكن أن يكون لها حشد جماهيري يفيها حقها لتلعب دورها في توعية الرأي العام وتوجيهه؟
قد يتجلى الجواب على هذا السؤال من خلال استعراض بعض الأسماء والأعمال التي ولدت في هذا المسار الثقافي وجَهِد مقدميها ومبدعيها، من الذين بذلوا الكثير من الجهد كي يعبّروا عن رؤيتهم الفكرية، أو في أحسن الأحوال عن ترجمتهم في قراءة وتقديم بعض الأعمال.
في العصر الذهبي للمنبر الثقافي بكل مطارحه ومسارحه وأشكاله، من المسرح إلى السينما، إلى المنبر الثقافي، إلى المنبر الشعري، حتى المنبر السياسي الأيديولوجي، كانت مرحلة السبعينات من القرن الماضي، مرحلة نهضوية ثقافية تجاوزت الحدود الجغرافية والعرقية، لتشكل بيروت المنبر شبه الأوحد في العالم العربي الذي اتسع لكل هذه الأنشطة الثقافية.
فكم من الأسماء في جميع ما ذكرنا، برزت وتبوأت صفحات وشاشات الإعلام، وبخاصة الإعلام المكتوب.. وتعداد الأسماء يحتاج إلى حديث خاص عن تلك المرحلة.. بخاصة إذا كان الحديث عن القضية الفلسطينية التي شكل المنبر البيروتي الرافعة الأقوى لكل كوادرها الفكرية والثقافية والاجتماعية.. وحتى السياسية.
القضية الفلسطينية التي ولد محمود درويش على منبر قضيتها، والذي أشار إليه السيد رقة، كانت عنصراً ملهماً إلى أبعد الحدود في ذلك المنبر.
لنعرض قليلا من هذا النص في هذه المسرحية، يربط الماضي بالحاضر، هذا الربط الذي ظهر منذ عبارة اسم العمل (أحلام يومية)، اي أن ما كان، مازال كما كان:
المشهد الثالث:
الممثل 2 : (يرتدي ثياباً تراثية، ويمتطي مفتاحاً خشبياً كبيراً ويدور حول المسرح وهو يردد) عائدون.. عائدون.. عائدون.. عائدون..
الممثلة 1: (توقفه في وسط المسرح) توقف.. توقف.. إلى أين أنت عائد؟
الممثل 2 : وهل هناك من عودة أجمل وأبهى من العودة إلى القدس الشريف؟
الممثلة 1: (تضحك).. اضحكتني يا رجل، ولماذا تريد زيارة القدس الشريف؟؟؟
الممثل 2 : الحقيقة أنني حصلت على هدية قيّمة من المندوب الفلسطيني في الأمم المتحدة، قال لي: لم يبق أحدٌ في هذا العالم يتكلم عن القدس سوى أنت.. لذلك دعني أقدّم لك هذه الهدية المتواضعة التي ورثتها عن أجداد أجدادي وهي مفتاح القدس.. خذ هذا مفتاح القدس.. أقدمه إليك.. لذلك أنا قررت الآن.. الدخول إلى القدس.
انتهى الاقتباس.
لنلاحظ ذكاء الكاتب ومحوريته في ربط القضية الأولى بالواقع الحالي، في الشكل نجده أشار إلى ” ثياب تراثية” ومن ثم “المفتاح”.. التفاتة جداً مهمة نحو ربط الموضوع، وبأنه ما زالت القضية في مشهدها الأول رغم كل ما جرى من أحداث ومن تغيرات سياسية.. وحتى سياسية، ليبقى السؤال: ماذا قدمتم للقضية.. والقضية الفلسطينية تعني كل القضايا العربية.
ثم نراه ينتقل بحرفية القارىء للواقع السياسي الذي وصلنا إليه، وهو المتاجرة في القضية، وكل القضايا العربية، وترميزه إلى هذه القضايا ابتداءاً بالقدس، وكيف أنها باتت سلعة تباع وتشرى بدون أي ثمن، ولو زهيد، فقط تُقدم كرمى للعيون.
نعود إلى أصل السؤال، لنقول إن السيد رقة وأمثاله وأقرانه كثيرون، نكاد لا نعرف عنهم شيئاً، وأتجرأ أن أقول نكاد لا نسمع بهم لولا بعض المناسبات التي تجمعنا بهم، وبالصدفة.
السبب في كل هذا أن حالة التفكيك السياسي التي استحكمت على جغرافية كل العالم العربي، جعلت من الثقافة هامشاً يحتاجه السياسي من وقت لآخر رغبة بالاستقطاب وليس تأييداً للثقافة وإيماناً بها، فأي عمل ثقافي مهما كان وقعه في عقل المتلقي، لا يجد طريقاً للنور الإعلامي والجماهيري، إلاّ إذا كان برعاية شخصية سياسية قادرة على التحشيد الجماهيري من خلال موقعها واسمها.
لقد قام في ذلك الزمن، رعيل كبير من المسرحيين الكبار الذي تركوا بصماتهم في خشبة المسرح، وأسسوا لجيل لا بأس به من المسرحين، ونجد في أرشيفهم كنوزاً من الأعمال المسرحية، هم الآن في دائرة الغموض وبعيدين عن استذكارهم والتواصل معهم.
رعيل تربى معه يوسف رقة، من أمثال جلال خوري وروجيه عساف ويعقوب شدراوي، وغيرهم، هم الآن مجرد أسماء، لولا أن ثقافتهم المسرحية التي بوأت بعضهم مركزاً أكاديمياً.. حتى هؤلاء لو طلب منهم تقديم عمل مسرحي جديد، سوف يبادرونك بالسؤال: إلى من نقدم.. وأين؟
“أحلام يومية” ليست مجرد نص مسرحي كتب، إنما هي صرخة مليئة بالقوة في موضوعها ومجالها الثقافي، لتقول أن كاتبها وأمثاله قادرون على توليد مجتمع مختلف، كما هم قادرون على قراءة ما يدور حولهم من أحداث، بلغة قادرة على توضيح الصورة والتأشير إلى مكامن الخطر على المجتمع، وإثبات قدرتهم على تشكيل وعي اجتماعي يرفض كل الأشكال التي يعاني منها المجتمع العربي اليوم، كما لمسناه في ما قدمه ـ على سبيل المثال ـ زياد الرحباني في تلك المرحلة، مما يكشف لنا قوة الأعمال المسرحية ودورها في بناء المجتمع.
نشر هذا المقال في موقع المدارك الالكتروني
لمشاهدة نص المقالة في موقع المدارك إضغط هنا