السفارة السعودية في بيروت ‘تصفي أملاكها’ | الحرب آتية؟
بات بإمكان المواطنين اللبنانيين استشراف أجواء التصعيد السعودي ضدهم، حتى من صفحات جرائد الإعلانات التي توزّع مجاناً، إذ تصدّر غلاف إحداها قبل يومين إعلان عن عرض السفارة السعودية في بيروت عدداً من السيارات التي تمتلكها للبيع، “وعلى الراغبين مراجعة مقر السفارة لمزيد من التفاصيل”، وهو ما حصل بعد ظهر أمس في مقر السفارة، شارع الحمرا البيروتي. انتقلت صفحة الجريدة سريعاً بين أيدي اللبنانيين وعلى ألسنتهم وعلى شاشات هواتفهم الذكية، مع عبارة مشابهة بعضهم يقولها على سبيل الدعابة، وبعضهم الآخر على نحو أكثر جدية: “السفارة تُصفي أملاكها قبل الحرب”.
لم تُفلح الدُعابة في تبريد أجواء القلق السارية في لبنان. وهو قلق أمني واقتصادي مُزدوج، تزيد موجات الشائعات المدروسة من حدته. ولم يُسهم استقبال رئيس الجمهورية ميشال عون، للقائم بالأعمال السعودي والوزير المُكلّف وليد البخاري، في قصر بعبدا ظهر أمس الجمعة، في تخفيف الاحتقان والقلق الرسمي والشعبي اللبناني على مصير رئيس الحكومة سعد الحريري، الموجود في الرياض منذ يوم السبت الماضي. مصادر قصر بعبدا نقلت عن البخاري تذكير رئيس الجمهورية أن “سعد الحريري مواطن سعودي”، وأنه “يُصرّف الأعمال من مقر إقامته في المملكة”. لم يزد هذا التصريح من الأمور إلا تصعيداً، مع انطلاق جولة جديدة من المحاولات اللبنانية لحثّ دول عربية وأجنبية على التدخّل لدى المملكة وإعادة الحريري إلى بيروت.
ورابطت عشرات الفرق الصحافية قرب المطار على امتداد الساعات منذ ليل الأربعاء – الخميس، بعد أن تمّ الإعلان عن انطلاق طائرة الحريري الخاصة من الرياض إلى بيروت. ثم أصبحت ترابط لتصوّر آخر المقيمين الخليجيين في لبنان، بعدما أصدرت الرياض والكويت وأبوظبي تحذيرات عاجلة لرعاياها لمغادرة لبنان “فوراً”. لم يُفلح الصحافيون في اقتناص لقطات لعودة الحريري التي لم تتم بعد، ولكنهم شاهدوا بالفعل مغادرة مئات المواطنين السعوديين والكويتيين والإماراتيين والبحرينيين للبنان، في وقت حاول بعض المصورين الوصول إلى موقع “سيارة مُفخخة عُثر عليها قرب المطار”، ولكن سرعان ما تبيّن أن الأمر ليس صحيحاً ومجرد شائعة خبيثة.
“مقاطعة اقتصادية مُجدداً”
استعاد اللبنانييون مع الدعوات الخليجية لمُغادرة لبنان المرحلة بين عامي 2013 و2015، التي شهدت موجة عقوبات اقتصادية مارستها الدول الخليجية المُتحالفة مع السعودية ضد اللبنانيين بحجة مواقف “حزب الله”. ومع تصاعد وتيرة الضغط السعودي على لبنان بنسخته الجديدة للعام 2017، يتذكّر اللبنانيون موجات الترحيل من دول خليجية، أو يتوقّعون تكرارها على نطاق أوسع. وتداول لبنانيون عاملون في المملكة يومها أن الوساطات قلّصت عدد المُبعدين بشكل كبير. لكن جيوش المُغرّدين السعوديين تطالب اليوم بطرد “كل اللبنانيين” من المملكة كـ”مطلب وطني” كما غرد الجيش الإلكتروني السعودي. أكثر من 230 ألف مواطن لبناني يعملون هناك. أسّس بعضهم شركاته في المملكة حتى قبل تحولها إلى رقم نفطي كبير. وعقّد غياب القوانين الناظمة لعملهم من علاقاتهم الاجتماعية مع سكان المملكة، فكان سهلاً على المُغردين المدفوعين من دوائر النظام استحضار مفردات عنصرية ضد اللبنانيين، كل اللبنانيين.
سيُقلّص هذا الإجراء في حال اتخاذه من قيمة التحويلات المالية التي يرسلها اللبنانيون في الخارج إلى ذويهم بشكل كبير. 43 في المئة تحديداً من أصل 7 مليارات دولار أميركي، بحسب إحصاءات وحدة الدراسات في “بنك بيبلوس” اللبناني، هي قيمة تحويلات اللبنانيين من دول الخليج. وبحسب ما أفادت مصادر لبنانية في السعودية لـ”العربي الجديد”، فإن “حالة من الخوف الشديد تسيطر على المُستثمرين اللبنانيين العالقين في الخليج بين خيار محاولة سحب أموالهم من المصارف ونقل استثماراتهم والتعرض للملاحقة، أو الطرد من الدول الخليجية المتحالفة مع السعودية صفر اليدين”. لم تترك السياسات السعودية المُتبعة حالياً لهؤلاء سوى حصر التفكير بين الخيارين. كيف لا، ولا يزال مصير رئيس الحكومة سعد الحريري مجهولاً في المملكة، وتتأرجح الآراء حول طبيعة إقامته بين الجبر وبين تقييد الحركة. فهل من الممكن أن تتعامل السلطات السعودية بشفافية أكبر مع المواطنين العاديين؟
تنفي مداخلات المُحللين السعوديين الذي ظهروا طوال الأيام الماضية على المحطات اللبنانية هذه الإمكانية. تحدّث هؤلاء بفوقية عن قدرات السعودية العسكرية والمالية، وعن إمكانية تسخيرها لـ”مواجهة حزب الله”. وذكّر أحدهم بالودائع المالية السعودية في مصرف لبنان المركزي، وبالاستثمارات الخليجية في لبنان، وكأنه يضع إصبعاً في جرح الاقتصاد اللبناني. وفي حين تنحصر التصريحات الرسمية في تأكيد “استقرار الوضع المالي”، قد يكون مناسباً البحث في تأثيرات دفع المملكة للدول الخليجية وللمستثمرين لمغادرة السوق اللبناني، خاصة مع تهديد عشرات الأكاديميين السعوديين بـ”إشعال سماء لبنان بالصواريخ البالستية والموجهة لحماية السعودية من إرهاب حزب الله”.
خيارات الحرب والأمن
هكذا حوّلت المغامرة السعودية بدفع رئيس الحكومة سعد الحريري للاستقالة لبنان إلى ساحة حرب مُتوقعة من دون إمكانية تحديد شكل هذه الحرب بالتحديد. تنفي وقائع السياسة والميدان في لبنان إمكانية اشتعال مواجهة عسكرية بين “حزب الله” وأي فريق آخر. احتكر الحزب في العقدين الأخيرين قوة عسكرية تفوق قوة الجيش اللبناني، مع احتفاظ الأحزاب التي شاركت في الحرب بجزء من ترسانتها العسكرية بشكل غير علني. وفي ظل الإرادة السياسية الجامعة في عدم التصعيد، سيبقى خيار الحرب الداخلية مُستبعداً. وفي مقابل صمت البنادق السياسية في لبنان، فإن ضجيج عمليات الاغتيال ملأ لحظات الفراغ السياسي في لبنان طوال العقد الماضي، ولا تزال قائمة الشخصيات المُرشحة للاغتيال على حالها منذ الاحتلال السوري للبنان بعد الحرب الأهلية، وحتى بعد زوال الوصاية العسكرية المباشرة عام 2005. تواجه القوى السياسية هذا الخيار من خلال التهدئة السياسية ومن خلال الجهد الأمني الاستثنائي لحماية الشخصيات المُهددة. ويبقى تأكيد رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” النائب وليد جنبلاط على الآية القرآنية: “أينما تكونوا يُدرككم الموت ولو كنتم في بروج مُشيّدة” الأكثر تعبيراً عن دقة المرحلة أمنياً في لبنان.
وإن بقي “إشعال سماء لبنان بالصواريخ” حلماً في مخيلة من غرّد به على مواقع التواصل الاجتماعي، يحضر خطر الحرب في أذهان اللبنانيين من بوابة العدو الإسرائيلي. قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية عشرات الأهداف على حدود لبنان الشرقية مع سورية خلال العامين الماضيين، وناورت تلك الطائرات فوق الأراضي اللبنانية لتجنّب الصواريخ المضادة للطائرات التي أطلقتها البطاريات السورية من جنوب العاصمة دمشق. وبين الرد السوري على خرق الأجواء السورية من لبنان، واستمرار نشاط “حزب الله” بين حدود البلدين، قد يتحوّل تكرار “انزلاق النيران السورية إلى داخل إسرائيل” إلى مُبرر لعدوان إسرائيلي جديد. ينفي أنصار “حزب الله” هذه النظرية “لأننا اليوم في أعلى درجات القوة العسكرية”، لكن الحرب لا تُقاس بميزان القوة العسكرية وحدها فقط.
وفي حال توافر مزاج إقليمي مؤيد لحرب إسرائيلية ضد “حزب الله”، فمن السليم الافتراض أن الحرب ستكون محاولة حاسمة لتدمير القوة العسكرية للحزب بشكل كامل. فرضيات كثيرة يطرحها التصعيد السعودي – الأميركي ضد “حزب الله”، ولا يبدو أن استقرار لبنان يقع ضمن أولويات الجانب السعودي الذي يطاول بخطواته التصعيدية كل اللبنانيين. وعلينا جميعاً أن ننتظر مفاوضات بيع سيارات السفارة السعودية في بيروت، عساها تحمل مؤشراً واضحاً للمرحلة المُقبلة.