الصفقة الكبرى بين واشنطن وآل سعود!
زيارة محمد بن سلمان هذا الأسبوع لواشنطن ليست عادية، ولا تقتصر على المشاريع الاستثمارية في سياق رؤية السعودية 2030 المعلن عنها في نيسان 2016. هي استثنائية بالمعني الحرفي للكلمة، وسوف يترتب على أساس مخرجاتها نوع العلاقة المستقبلية، وكذلك الاستراتيجية الأميركية في المنطقة
لم يرُقِ الملكَ السعودي ونجلَه وليّ وليّ العهد الأداءُ الحذر للرئيس السابق باراك أوباما، فجاء من يفوق بطيشه أضعاف ما عليه محمد بن سلمان في مغامراته، ولكن ما يجمع العجوزَ الأميركي بالشاب السعودي أيديولوجية إبادة وطموح منفلت. هنا تبدأ قصة الصفقة الكبرى التي يجري تداول تفاصيلها في اجتماعات بون ولندن، وأخيراً واشنطن.
في غمرة اللقاءات السريّة، يتصدر اجتماع الخماسية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، الإمارات وسلطنة عمان) في بون، وذلك على هامش مؤتمر الأمن في ميونيخ في ألمانيا، خلال شباط الماضي، حينما كان الانكباب على معركة الساحل في اليمن، وعلى وجه التحديد سواحل الحديدة، بأبعادها الاستراتيجية، وفي سياق تطبيق خطة الأقاليم التي طرحت ذات مرّة في عهد الرئيس المنتهية صلاحيته عبد ربه منصور هادي، وفجّرت حينذاك ثورة غضب في المحافظات ذات الغالبية الزيدية.
واستطراداً، طرحت في بون خيارات الحرب والسلام في اليمن، وفيما اختارت الدول الأربع مواصلة الحرب، تمسّكت سلطنة عمان بالحل السياسي للأزمة اليمنية.
أما في اجتماع الخماسية في لندن قبل يومين، وهي المحطة الانتقالية لمحمد بن سلمان قبل وصوله الى واشنطن للقاء ترامب، فكان النقاش موسّعاً حول الخطط الاستراتيجية في المنطقة وفي اليمن.
بالنسبة إلى فريق ترامب، فإن الخيار الراجح حرب شاملة في المنطقة تكون بدايتها اليمن وتصل إلى المحور الذي تقوده إيران في المنطقة، ولكن أثمانه خيالية، على الأقل من منظور الرياض وأبو ظبي، بصفتهما مسؤولتين رئيسيتين عن «فاتورة» الحرب.
لم تعد المقايضة على الصفقة الكبرى بـ«الأرقام»، وإنما بـ«النسب». والكلام يدور الآن حول ثمن فلكي للحرب بشقين: الأول مناصفة السعودية والإمارات في الثروة النفطية، والثاني التطبيع الشامل مع “إسرائيل” بما يمهّد لنقل السفارة الأميركية إلى القدس.
تراود الرياض أحلام محفوفة بهواجس وارتياب، فهي تتبنى خيار الحرب ضد إيران، لكنها لا تريدها حرباً مفتوحة وشاملة في عموم المنطقة قد تؤول إلى تغيير «خرائط» و»معادلات». كما ينظر السعوديون إلى شروط ترامب على أنها تعجيزية، وبدت على غير العادة قلقة من عواقب أمرين: فشل الحرب وجشع ترامب.
في الملف اليمني، ليس هناك في أي من عواصم القرار من يتحدث عن نهاية للحرب ولا عن حل سياسي لها، ويتفق طرفا الحرب على أن الحرب تتواصل بوتيرة أشد عنفاً منذ وصول ترامب. بالنسبة إلى الرياض، فإن سقف توقعاتها زاد إلى حد أن ابن سلمان أبلغ فريقه أنه لم يعد بحاجة إلى عملاء في اليمن، بل يريد موظفين يقبضون مرتباتهم في نهاية الشهر، أي أنه يريد يمناً تابعاً وبلا سيادة.
هناك من يغذي في الجانب الأميركي تطلعات ابن سلمان، فسفير واشنطن السابق لدى صنعاء جيرالد فايرستاين، وهو عرّاب المبادرة الخليجية التي أعلنها في نيسان 2011 أي بعد شهر من انطلاق الثورة الشعبية في اليمن، هو أيضاً عرّاب الحرب الحالية في رد فعل انتقامي على حركة «أنصار الله» عقب سيطرتها على العاصمة في 21 أيلول 2014.
وذكّر فايرستاين السعوديين، خلال اجتماع أمني في الرياض قبل شهور عدة، بمقترح تقدّمت به إدارة جورج بوش الابن في 2001 حينما حذّروهم من أن «الحوثيين خطر يجب التعامل معه على وجه السرعة»، لكن السعوديين لم يتعاطوا بجديّة مع الأمر. ولناحية استعجال السعوديين للموافقة على «الصفقة الترامبية» الحالية، لوّح السفير الأميركي الجديد لدى صنعاء، ماثيو تولر، في مقابلة مع صحيفة «الشرق الأوسط» التي تمولها المملكة (4 آذار الجاري) بمبادرة الوزير السابق جون كيري.
تلك المبادرة كانت قائمة على أساس وقف الأعمال الحربية وتشكيل حكومة وحدة وطنية قبل نهاية العام الماضي، وقد رفضها هادي وفريقه كونها تقوّض شرعيته المزعومة. في المعلومات والتحليل معاً، أن الإجابة غير الواضحة التي قدّمتها الرياض على «الخطة الترامبية» قد تدفع إلى الانتقال إلى خطة «ب»، أي التسوية على أساس مبادرة كيري. وما يخشاه كبار أمراء العائلة المالكة في الرياض أن يرفع الستار في الحرب الشاملة عن مشهد جيوسياسي مختلف: يمن جديدة وسعودية جديدة، فيما يتمسّك الملك سلمان ونجله بخيار مواصلة الحرب، على أمل الخروج بنتيجة أخرى معاكسة.
ووفق تسريبات أوساط ولي العهد محمد بن نايف، فإن الأخير ينتظر إشارة علنية من قيادة «أنصار الله»، تشي بالرغبة في استئناف التواصل معه لكبح جماح محمد بن سلمان والخروج من مستنقع الحرب العقيمة في اليمن. هكذا، يعكس الخلاف بين «المحمدين» خلافاً في الولايات المتحدة بين البنتاغون و«السي آي ايه» في مقاربة ملفات المنطقة.
الانقسام السياسي الحاد في واشنطن عكس نفسه في مواقف متضاربة حيال اليمن. فشهادة السفير السابق فيرستاين أمام لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ في الكونغرس حول اليمن تمثّل وجهة في الانقسام المرشّح للتعاظم. فقد جدّد فيرستاين السردية النمطية عن الاشتباك المفتوح بين المحاور، ولم يغفل «البعد الشيطانوي» لتبرير الحلول التي بيّت طرحها في نهاية الاستعراض، فقد حمّل «الحوثيين وقوات علي عبدالله صالح مسؤولية تقويض السلم الأهلي»، وزاد عليها طنبوراً بوضع ذلك كله في سياق الدور الإيراني في المنطقة، ليضفي مشروعية على «قرار التدخل في اليمن».
بذلك، يصير العدوان السعودي على اليمن شرعياً وكذلك أهدافه، وفي مقدّمها: إعادة الشرعية، تطبيق بنود المبادرة الخليجية التي كان فيرستاين نفسه عرّابها الرئيسي، منع جماعة الحوثي وعلي صالح من أخذ السلطة وتأمين الحدود السعودية. وأخيراً وليس آخراً منع إيران «من إيجاد موطئ قدم لها في منطقة الجزيرة العربية و..».
هنا يبدأ الجزء المتعلق بالصفقة الشاملة، فقد كان المؤمّل، وفق رواية فيرستاين، من التحالف العربي بقيادة السعودية أن يحقق تلك الأهداف في مدة قصيرة، ولكن بعد مرور عامين، ولا نزال في أجواء شهادة السفير نفسه، عجزت الرياض عن ذلك. ومع أن فيرستاين لم يغفل البعد الإنساني في الشهادة (ضحايا المجاعة، والقصف…)، لكنّه بعدٌ لا ينفك عن الخطة المبيّتة التي يريد إمرارها بطريقة ماكرة. سر الشهادة يكمن في المقترحات النهائية التي شملت: دعم حكومة هادي والتحالف، حل سياسي يكون أساسه القرار 2216، مع مراعاة القلق السعودي من أي حكومة تأتي في صنعاء، ثم تضاف إليها تدابير أخرى داعمة؛ من بينها تعزيز أمن الحدود السعودية بمساعدة أميركية.
ما يبعث على الغرابة أن السفير فيرستاين هو نفسه من يتبنى مقترح «ضرب ميناء الحديدة، على أن يتم إصلاحه لاحقاً والسماح للمنظمات الإنسانية بالدخول وتوزيع الإغاثات…»، والهدف كما يفصح عنه هو لقطع الطريق الموصل بين الحديدة وصنعاء، وعليه قطع المساعدات التي تغذي غالبية المدن الشمالية. وفي تقدير فيرستاين أن الحل سوف يبدأ من الناحية الفعلية سنة 2018، الأمر الذي يعني أننا أمام عام يغاث فيه الشعب اليمني بانتظار حسم الصفقات التي يجري التداول حولها بين الأطراف المعنيّة.
في المقابل، أدلى عدد من النوّاب والخبراء بشهادات أخرى معارضة أمام الكونغرس خلصت إلى أن المساهمة الأميركية في الحرب بعد سنتين من اندلاعها «لم تحقق أياً من الأهداف المرجوة»، وأن قرار «التصعيد العسكري» سوف يصبُّ الزيت على النار، ولفت النوّاب إلى ما وصفوه «استراتيجية عقاب على الشعب اليمني في الشمال»، في إشارة على ما يبدو إلى خطة فريق ترامب بالتفجير العسكري الشامل في المنطقة تكون اليمن الجبهة المتقدّمة فيها.
كذلك، نشرت سلسلة مقالات في كبريات الصحف والمجلات والمواقع الخبرية الأميركية، من بينها «نيويورك تايمز» و»واشنطن بوست» و»فورين أفيرز» و»فوكس نيوز»، طالبت ترامب بتجنب تبني الرواية الإسرائيلية والسعودية حول التصعيد مع إيران، وحذرت من عواقب الحرب في حال اندلاعها.
أيضاً، رفع 53 عضو كونغرس في 9 آذار الجاري عريضة إلى وزير الخارجية، ريكس تيليرسون، طالبوا فيها بـ«استخدام الولايات المتحدة كل أدواتها الدبلوماسية للمساعدة في فتح ميناء الحديدة أمام المنظمات الإنسانية الدولية للسماح لها بإيصال الغذاء والوقود والدواء إلى الشمال اليمني وإنقاذ حياة مئات الآلاف من الأطفال اليمنيين الذين يواجهون المجاعة». وحمّل هؤلاء طائرات التحالف، الذي تقوده السعودية، مسؤولية المجاعة بقصفها الميناء الرئيسي، أي الحديدة، وهو ما تسبب في حرمان 7.3 ملايين إنسان في حاجة إلى المساعدة الغذائية الفورية. كما أكّد الموقعون على العريضة أن «الحل النهائي للحرب الأهلية في اليمن هو دبلوماسي»، وأن على الولايات المتحدة تشجيع كل الأطراف على العودة إلى طاولة المفاوضات.
حتى الآن، تبدو المنطقة في حالة ترقّب لما سوف تؤول إليه المفاوضات بين ترامب وابن سلمان الذي لن يتردد في اقتناص الفرصة الأخيرة للفوز بالعرش. وما يجري الآن من مداولات بين السعودي والأميركي يحوم حول السعر المقرر للصفقة، فالرياض وافقت على دفع «الفاتورة»، لكن ليس على قدر شهية ترامب وتوقعاته الحالمة. وبعدما كانت مساحة المناورة التجارية بين ترامب وآل سعود تقتصر على شراء شقق سكنيّة تراوح قيمتها بين 40 ــ 50 مليون دولار، فإن ترامب يفاوض اليوم من موقعه رئيساً لأقوى دولة في العالم على «مناصفة» الثروة في السعودية. لا فرق بين ترامب «التاجر» وترامب «الرئيس»، وعلى ابن سلمان الحذر من جشع الأول حين يفصح عن نزعته العدوانية… ووفق تعبير مجلة «فورين أفيرز»، يجب على السعودية «أخذ الحيطة والحذر من العدائية المحتملة لدى ترامب حين تبلغه الرياض أنّ توقّعاته تجاه المملكة قد تجاوزت الحد المعقول».