الكلام ‘المباح’ للحريري متروك لعودته إلى لبنان
أمّا وقد تمّ طيُّ الصفحة الأولى من ملفّ الملابسات التي أحاطت بظروف استقالة رئيس الوزراء اللبنانيّ سعد الحريري بمجرَّد هبوط طائرته بسلامٍ على مدرَّج مطار “لو بورجيه” الباريسيّ نهار أمس السبت، فإنّ عمليّة ضرب الأخماس بالأسداس الهادفة إلى استبيانِ شكلِ النتيجة النهائيّة لما سيترتَّب تِباعًا على طيِّ الصفحات التالية من الملفّ نفسه، اعتبارًا من الآن وحتّى إشعارٍ آخَر، تكون قد بدأت على الفور، ولا سيّما إذا وضعنا في الحسبان أنّ “الخروج الآمن” للرئيس الحريري من الرياض بعد خمسةَ عشرَ يومًا من الشكّ وعدم اليقين حول كافّة تلك الملابسات، بحسب ما يشي به فحوى أكثر التحليلات رزانةً ورجاحةَ عقلٍ وبُعْدَ نظرٍ حول هذا الموضوع، لا يعني بالضرورة “خروجًا آمنًا” للرياض من أدبيّاته وسلوكيّاته وخططه المتوقَّعة والمرسومة على المدى المنظور، الأمر الذي لا بدّ من أن يَحول تلقائيًّا في الوقت الراهن دون الإسراف في التفاؤل بأنّ القادم من الأيّام سيكون أفضل ممّا مضى، أقلُّه إلى حين عودة الرئيس المستقيل إلى لبنان لمعرفة وتحديد إبرة بوصلة حديثه المرتقَب مع رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، ولكي يُصار إثر ذلك إلى البناء على الشيء مقتضاه ومبتغاه.
لا شكّ في أنّ السيناريوهات المطروحة قيد التداول في أوساط اللبنانيّين بالنسبة إلى مستقبل الأوضاع في البلاد عديدةٌ ومتنوِّعةٌ، ويتباين منسوب خطورتها، ارتفاعًا أو هبوطًا، بين رأيٍ من هنا ورأيٍ آخَر من هناك، تمامًا مثلما كان الحال عليه، ولا يزال، بالنسبة إلى التساؤلات المتعلِّقة بالملابسات الآنفة الذكر حول ظروف الاستقالة المفاجئة وما تفرَّع عنها من عناوينَ مختلِفةٍ، سواءٌ من جهة ما هو شائعٌ عن “إكراه” الرئيس الحريري على تلاوة بيانها جرّاء تعرُّضه لضغوطٍ سعوديّةٍ مورسَت عليه أم من جهة ما هو في حُكم المؤكَّد عن “تقييد” حرّيّته الشخصيّة داخل المملكة أثناء فترة إقامته الأخيرة فيها، وهي تساؤلاتٌ، وإنْ كانت مبرَّرةً ومنطقيّةً وملحَّةً بالطبع، ولكنّ الأمانة الأخلاقيّة والمهنيّة تستوجب القول إنّ لا أحدَ يملك الإجابات الشافية عنها سوى الشيخ سعد نفسه، وذلك بالنظر إلى كونه المعنيَّ الأوّل والأخير بالإفصاح عن حقيقة ما حصل معه خلال أيّام غيابه السابقة.
على هذا الأساس، يُصبح في الإمكان تفهُّم السبب الذي جعل تصريح الرئيس الحريري للصحافة لدى خروجه البارحة من قصر الإليزيه في باريس مقتضَبًا للغاية، وبالتالي، يُصبح في الإمكان أيضًا تفهُّم السبب الذي جعل الصحافيّين يتفادون بدورهم الإصرار على إمطاره بأسئلةٍ يُدركون مسبَقًا أنّ لا جدوى من طرحها في الوقت الحاليّ، وخصوصًا بعدما كان قد قال أمامهم بإيجازٍ إنّه يعتزم التعبير عن مواقفه السياسيّة في أعقاب إتمام لقائه المرتقَب خلال الأيّام القليلة المقبلة في بيروت مع الرئيس ميشال عون، الأمر الذي يُعبِّر بكافّة تجلّياته، إذا ما أردنا رؤية النصف الملآن من كأس ملابسات الاستقالة، عن حالةٍ صحّيّةٍ ملموسةٍ تمايز بها كلٌّ من الأداء الوطنيّ للرئيس المستقيل والأداء الأخلاقيّ للزملاء الصحافيّين على حدٍّ سواء.
أمّا بالنسبة إلى النصف الفارغ من الكأس، وطنيًّا وإعلاميًّا، فإنّ اثنين من العاقلين لا يمكن أن يختلفا على الكمّ الهائل للمحاولات المشبوهة التي قام بها سياسيّون وإعلاميّون طيلة الأسبوعيْن الماضييْن من أجل الاصطياد في مياه الاستقالة العكِرة، سواءٌ عن طريق إطلاق المواقف الملتبِسة أم عن طريق تسييسها بشكلٍ أكثرَ التباسًا، وهي المواقف التي لا يختلف اثنان من العاقلين أيضًا على أنّها جاءت مخالِفةً ومناقِضةً لكلِّ المساعي الحميدة والجهود الحثيثة التي بُذِلت مشكورةً من أجل احتواء تداعيات الأزمة في الداخل اللبنانيّ، بدءًا من قصر بعبدا، مرورًا بعين التينة والضاحية الجنوبيّة ودار الفتوى، ووصولًا إلى مختلف عواصم القرار المعنيّة بالمحافظة على الاستقرار في لبنان، وليس بتفجيره، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ بعض هذه المواقف الملتبِسة كاد ينسِف مرارًا مفاعيل “الصدمة الإيجابيّة” التي أراد الرئيس الحريري إحداثها في البلد إثر قيامه بتلاوة بيان استقالته من الرياض، على حدّ تعبيره، بغضّ النظر عمّا إذا كان أصحاب تلك المواقف من الأقربين إلى “تيّار المستقبل” أو إلى “الحريريّة السياسيّة” أم من الأبعدين عنهما، وذلك جرّاء نزعاتٍ ونوايا كان النائب السابق غطّاس خوري الأصدق في وصفِها بـ “الأسخريوطيّة”، نسبةً إلى يهوّذا الأسخريوطيّ الذي حدَثَ وأن قبَّل يسوع المسيح قبل أن يشي به لليهود تمهيدًا لتعليقه على خشبة الصليب.
من هنا، تبرز أهمّيّة التداول بمصطلح “التعاطي بمسؤوليّة” مع كافّة التداعيات المرتقَبة لأزمة الاستقالة خلال الأيّام المقبلة، وخصوصًا في الأوساط الإعلاميّة التي يُفترَض أن تركِّز في لغة تخاطبها مع الرأي العامّ على ما يمكن أن يتيسَّر من مواقفَ تضمن حثَّ اللبنانيّين على التمسُّك بوحدتهم الداخليّة وصونها وترسيخها، على غرار ما حصل خلال الأسبوعيْن الماضييْن، بعيدًا عن مفردات الكيديّة والتحدّي التي غالبًا ما كانت تُوشِك في الماضي على رمي البلد بأكمله في الجحيم… وحسبي أنّ قطوع الأزمة سيمرُّ عندئذٍ على خيرٍ في مختلِف الظروف والأحوال… والخير دائمًا من وراء القصد.
المصدر : جمال دملج – لبنان 24