بشر يسكنون في أقفاص دجاج!!
اقتصادياً، تعد هونغ كونغ الأولى عالمياً لناحية القدرة الشرائية. لكنها أيضاً أول تجمع سكاني من حيث عمق الفوارق بين أثرى الأثرياء وأفقر الفقراء، الذين “يسكن” بعضهم في ظروف أقرب إلى الحيوانية منها إلى الإنسانية. إذ أسهمت 3 عوامل في لفظ عدد كبير من المنبوذين: الفارق الكبير في الدخل بين الطبقتين الموسرة والمعدمة، وارتفاع أسعار الإيجارات بشكل رهيب، وأزمة القطاع الصناعي.
لذا، تضم هونغ كونغ نحو 200 ألف متشرد ومحروم من سكن حقيقي، معظمهم عمال مهاجرون غير شرعيين، بما في ذلك نسبة كبيرة من صينيين “مهاجرين” في بلادهم. و”المحظوظون” من بينهم يسكنون في أقفاص دواجن، قد تعافها حتى حيوانات الأغنياء المدللة. فحيث يوجد ثراء، وما يرافقه من ترف وإسراف، لا بد أن نجد مظاهر البؤس المخجل والفقر المدقع في أطرافه وضواحيه.
تتنضد تلك الأقفاص في أبنية متهرئة، شيدت في خمسينات القرن الماضي إثر الانفجار السكاني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إذ ارتفع عدد سكان الجزيرة من 600 ألف في العام 1945 إلى مليونين و100 ألف في العام 1950، إلى 7.25 مليون حالياً. فمشاريع التصنيع الكبرى التي بوشر بها عقب الحرب، إضافة إلى الحرب الأهلية الصينية وقتذاك، دفعت بملايين الصينيين إلى التوافد إلى الجزيرة، التي لم تكن تمتلك بنية سكنية كافية لإيوائهم. فشيدت تلك المباني على عجل، وقسمت وحداتها السكنية إلى “أقفاص” لترشيد المساحة.
ولا تزال تلك المباني القديمة تشكل ملاذاً لعشرات آلاف المشردين، “يعيشون” فيها داخل أقفاص بطول 6 أقدام وعرض 3 أقدام، ومثلها ارتفاعا. بالتالي، أقل من مترين مكعبين كحجم إجمالي لفضاء الحياة اليومية. وتهمل سلطات هونغ كونغ هذه القضية بدعوى أولوية العمل على إيجاد مساكن للعائلات الفقيرة من مواطنيها، بدلاً من الاهتمام بالعزاب “الأجانب”، رغم كون معظمهم صينيين.
يقول أحد قاطني الأقفاص إنه يشعر كأنه حيوان في حديقة حيوان، مع فارق إنه يفكر في الانتحار معظم الوقت، بعكس الحيوانات. ونسبة عالية من سكان الأقفاص هم من المسنين المنسيين، ممن تخلت عنهم أسرهم وأهملتهم السلطات. لذا يأتون إلى تلك المباني حيث يجدون ملاذاً يُجنبهم التشرد التام في الشوارع وافتراش الأرصفة. لكنهم ليسوا الوحيدين في بؤر البؤس تلك. فهناك أيضاً شباب متشردون، وأسر بأكملها مع أطفالها، وأشخاص معوقون. كيف لا والسكن هناك “يطير العقل”؟ وطبعاً، ثمة نفر من مجرمين وجانحين، ومتعاطي مخدرات وبائعيها. وهناك حتى لاجئون سياسيون، هربوا من الصين الشعبية حين كان نظامها شمولياً.
كل قفص محاط بأسلاك معدنية مشبّكة، مع باب يتيح بالكاد دخول المستأجر وخروجه، مزود عادة بقفل لتأمين ترك مقتنياته البائسة القليلة. فبعضهم تمكن من اقتناء تلفاز أو مروحة، وحتى كومبيوتر في حالات نادرة، إضافة إلى المصابيح، التي لا غنى عنها في تلك الأماكن المظلمة 24 ساعة في اليوم. أما “خزانة الملابس”، فغالباً ما تتمثل في شبكة القفص المعدنية، يعلقون عليها ما لديهم من أردية عتيقة.
وطبعاً، لا تسمح أبعاد القفص الضيقة بالوقوف داخله، إنما الاستلقاء فحسب. وأحياناً لا تكفي حتى لذلك في حال وجود حوائج شخصية تعيق التمدد بشكل تام. وثمة مطبخ بسيط واحد (من دون ثلاجة) وحمام واحد للاغتسال ومرافق “صحية” واحدة لكل مجموعة ساكنين، يراوح قوامها بين دزينة واحدة “للمحظوظين”، وأربع دزينات للأقل حظاً.
رغم تلك الظروف المزرية، وما يرافقها من روائح نتنة، يراوح إيجار القفص بين 120 إلى 168 دولاراً أميركياً شهرياً. لكن هذه التسعيرة تعادل إيجار المتر المربع الواحد في شقة اعتيادية في هونغ كونغ. بعبارة أخرى، لا يندر أن يتجاوز قسط الإيجار الشهري 12 ألف دولار لمسكن مريح من 100 متر مربع في حي راق في الجزيرة.
وإذ تعترف السلطات بوجود 25 قفصاً مسجلاً لديها فقط، يراوح العدد الحقيقي، وفق المنظمات غير الحكومية، بين 5 آلاف و8 آلاف. فالمباني غير مرخص بها رسمياً، وعليه غير مسجلة لدى الدوائر الحكومية. بالتالي غير معترف بوجودها أصلاً. وغالباً ما تتعرض إلى “كبسات” من رجال الشرطة. وفي كل مرة، يأمرون الساكنين بإخلاء المكان خلال شهر من “تاريخه أعلاه”. لكن، يمر تاريخه أعلاه، وتواريخ أخرى مماثلة، ولا يُنفذ الأمر بتاتاً. فالسلطات تعي تماماً أن ليس لهؤلاء من ملاذ آخر سوى الشارع، فتغض النظر، حيث من الأفضل إخفاء البؤس على رجال الأعمال والمستثمرين.
ووفق دائرة التعداد والنفوس الرسمية، تضم هونغ كونغ 150 ألف شخص يقطنون في “مساكن غير لائقة”، من ضمنها، عدا عن الأقفاص، غرف ضئيلة من نحو 5.5 متر مربع، تتراصّ فيها أسر بأكملها، ومن دون أي مرافق. لكن المنظمات غير الحكومية تقدر العدد بأكثر من 200 ألف، لاسيما إذا أضيف ساكنو السطوح والزوايا الضيقة في الأبنية، و”المعتصمون” غير الشرعيين (ما يسمى “سكواترز”) في أبنية قديمة آيلة إلى الهدم. إلى ذلك، ثمة أكثر من 10 آلاف شخص يفترشون أرصفة مدينة العولمة، من دون أمل في الحصول حتى على قفص للمبيت.