حين وقفت السعودية على ‘إجر ونص’
“كتبت عبدالله قمح في ليبانون ديبايت:
حسنًا، إستقال وزير الإعلام جورج قرداحي وخرج من المشهد، لكن من قال أن القصة إنتهت هنا؟ ومن يُمكنه القول أن تبعات القضية وترسّباتها ستنتهي كلياً بمجرّد مغادرة قرداحي مكتبه؟
نظرياً، بات قرداحي في موقعٍ أفضل، وأثبت للجميع قدرته على المواجهة والثبات وعدم الخضوع أو الإرتهان، وكشف عن قيمةٍ مضافة ترتبط بمدى حنكته ودهائه السياسيين. هذا كلّه يؤهله لاحقاً، إلى تبوّء مناصب رفيعة في الدولة اللبنانية. فقصة قرداحي لم تنتهِ بمجرد تقديمه استقالته أو خروجه من الحكومة، والواقع يقول أنها بدأت حين تقدّم بتلك الإستقالة، أي حين دشّن طريقه السياسي رسمياً.
عملياً، ما راكمه قرداحي خلال هذه الازمة يصعب تجاوزه بسرعة. مثلاً، الرياض بصفتها معنيّة رئيسية بالأزمة، كيف تعاطت مع خبر الإستقالة؟ بتجاهلٍ تام. وسائل إعلامها تعاملت معه بتحقير وقلة أخلاق حين صنّفته بغير المهم، وهذا إنما ينمّ عن ضيق صدر “مملكة الخير”، والخطوة الإعلامية السعودية، محالٌ أن يتمّ فصلها عن التعميم الرسمي السعودي. إذاً تصرّفت الرياض بمثل أن الإستقالة لا تعنيها. بمنظورها، هي تجاوزت هذا الطلب منذ مدة وأصبحت في مكانٍ آخر.
في الواقع، السعودية محرجة في طريقة تعاطيها مع الإستقالة، ففي النتيجة لم تتحقق لها حين أرادتها، ولو حدث أن استقال القرداحي قبل هذا الموعد، أي في مستهلّ الأزمة، لكانت الرياض قد سوّقتها كإنجاز، وبالتالي حصولها بعد شهر لا يقدم أية أثمان ولا يُرتجى منها شيء. من هنا، يكون قرداحي قد لعب استقالته صح، ووقّتها على زمن يحدّ من الخسارة ويقلل من أهميتها، وهذا يصنّف كدهاء في مكان، وهو عنصرٌ مهم لا يمكن تجاوزه.
أضف إلى ذلك، أن الرياض كانت تنوي إخراج القرداحي من المعادلة مكسوراً ودون أية مكاسب أو أوراق، أي عملياً أرادت إنهاءه سياسياً ، ربما لدوافع هي تعلمها. لكن السحر انقلب على الساحر. ما أمكن لقرداحي تجميعه في هذا الوقت القصير فاق المتوقع وما يمكن لأي مسؤول أن يحصل عليه. هو عملياً، اكتسب ثقة جماعات سياسية أساسية، وجدت فيه قدرةً على السيطرة والمناورة وكرّس نفسه كحالة ورشّح نفسه لبلوغ مراتب أعلى.
وخلال مواجهة الرياض التي دامت زهاء شهر تقريباً، راكم وزير الإعلام نقاط قوة كثيرة، في الواقع مثلت قلقاً بالنسبة إلى السعودية. ففي البداية، هشّم صورة النفوذ السعودي في لبنان، وأظهر عطباً جوهرياً قد طرأ عليه إلى حدود إظهاره محصوراً ضمن رقعة محددة، تتموضع لدى جماعة السعودية حصراً ولا تشكّل أي تأثير خارجها. فلو كان تقدم بالإستقالة في مستهلّ الأزمة، لكان يمكن القول أن قرداحي خرج مهزوماً، وأن بيروت باتت في متناول الرياض. في مكانٍ آخر نجح القرداحي في الصمود، إلى حدود أن اختار بحرية توقيت إعلان استقالته بعيداً عن سياسة الإملاء. ولو صدق ما نُقل عن ميقاتي حيال أن الإستقالة موقّعة بتاريخ 3 تشرين ثاني، فهذا يعني أن قرداحي ناور جيداً ولم يدع الإستقالة تمرّ، إلاّ لقاء حصوله –أو حلفائه- على شيء في المقابل، رغم نفيه لذلك. ويُسجّل له أنه وحين عزم على تقديم الإستقالة، إختار إعلانها على الملأ ومن وضعية الثبات، ولم يُظهر أي تراجع في مواقفه بل رسّخها وربطها مع خطوة الإستقالة في إطار قراره “السيادي”، بمعنى أن احداً لم يمل عليه بدليل عدم انصياعه للرغبات والضغوطات، ولعلّ إحدى مكامن النجاح التي حقّقها، أن أوقف السعودية على “إجر ونص” إنتظاراً لاستقالة لم تأتِ وفق ما تشتهي، ما دفعها للخروج عن القاموس الكلامي معتمداً على تحقير الإستقالة والتقليل من أهميتها.
داخلياً، رسّخ قرداحي عدة مفاهيم يجدر التوقف عندها. فكما تعاطى مع الطلب السعودي بإستقلالية تامة بعيداً عن لغة الضغط والإرغام والتهويل، كذلك فعل في موضوع تقديم الإستقالة العلنية. فهو لم يبعها إلى رئيس الجمهورية أو يصعد منبر قصر بعبدا لإعلانها على شكل “خطاب مقتضب” أو “نص خجول” يوزع عبر الإعلام ينطبق عليه مفهوم “الفرار السياسي”، وإنما اختار أن يمارسها بقناعة تامة و بكامل صلاحياته ومن موقع وزارة الإعلام، كذلك لم يهب استقالته إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ولماذا يفعل ما دام الأخير لم يقف معه؟ في الواقع، كان قرداحي أقرب إلى تقديمها كهدية إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبيل حضوره إلى الرياض، تصلح للإستخدام كورقة معبّرة عن النفوذ الفرنسي في الداخل اللبناني.
في النتيجة، كان خروج قرداحي مدوياً تماماً كدخوله الحقل السياسي وتصريحه لاحقاً. رغم كل شيء، تبقى الخسارة الوحيدة، أن هذا الرجل بما يمثله من قيمة قد خرج، ولعلّ ذلك من صالحه بعدما ظهر العطب في هذه الحكومة.