صفحة حمراء يُسطِّرها العسكريون… الأهالي: لماذا تُركنا نتعذّب؟
أكثر من 26 ألف و900 ساعة، وأكثر من ألف و120 يوماً إنتظر أهالي العسكريين المخطوفين لدى «داعش»، خبراً يُحدّد مصير أبنائهم ويروي ظمأ شوقهم إليهم. ملّت عقارب الساعة من نظاراتهم وما ملّوا الانتظار. 3 سنوات و26 يوماً والخيمة التي نصبوها في ساحة رياض الصلح، تشهد على لعلعة حناجرهم، وأنين وجعهم، وحرق أعصابهم… إلى أن دقت ساعة الصفر ووصلهم الجواب «قد تمّت تصفيتهم». لا لم يسقطوا، هم ارتفعوا إلى فوق ليشقّوا فجراً يليق بالأحرار. ولهؤلاء عرس جماعي يليق بالأبطال في غضون أيام.«بالمنام» فقط يمكن لماريا بعد اليوم معانقة والدها وتكهّن تقاسيم وجهه، وملمس شاربيه. هي التي تعرّفت إليه بالصورة، نظراً إلى انها أبصرت النور خلال وجود أبيها المعاون ابراهيم مغيط في أرض المعركة.
بحماسة انتظرته لعلّهما يطفئان معاً شمعتها الثالثة هذه السنة، وإذ بحلم عودة الأب ينطفئ مع خبر استشهاده. كذلك خسر شقيقها عمر (8 سنوات) الهدّاف الأحبّ إلى قلبه، «بابا بطل الفوتبول»، فيما حمزة الشقيق الأصغر، يأبى تصديق ما حصل وعند رؤيته طيف بزّة عسكرية يهتف «بابا! بابا».
يعجز نظام مغيط عن التحدث لـ«الجمهورية» بعد تأكده من خبر استشهاد شقيقه ابراهيم، تخونه دموعه، مُتمتماً: «نحنا الاهالي شو بدنا نقول لولادنا بعد كل هالنطرَة؟». يصمت، يسترجع قواه: «كل ما علينا القيام به أنجزناه، من تصعيد، إلى زيارات رسمية لقيادات سياسية ودينية. وحدها الدولة لم تقم «بربع» ما كان عليها القيام به».
جحيم الانتظار
منذ فجر السبت وَرد خبر لأهالي العسكريين: حسين عمار (فنيدق)، خالد مقبل حسن (فنيدق)، ابراهيم مغيط (قلمون)، محمد يوسف (مدوخا)، علي الحاج حسن (شمسطار)، مصطفى وهبة (اللبوة)، سيف ذبيان (الشوف)، علي المصري (حور تعلا)، عبر مواقع التواصل الاجتماعي مفاده أنّ العسكريين مقتولون.
فقام حسين والد الشهيد محمد يوسف ونظام شقيق الشهيد إبراهيم مغيط بجولة اتصالات، من دون التوصّل إلى الجواب اليقين. لكنّ الشك بدأ يتسلل إلى قلبيهما، واشتَمّا من صمت المعنيين رائحة الاستشهاد، إلّا انهما حاولا حتى اللحظة الاخيرة طرد الشكوك متمسّكين بالامل، «بلكي طيّبين، بلكي المفاوضات بتحمل بشرى سارّة».
على رغم الانتظار الطويل الذي اختبره الاهالي طوال سنوات، إلّا أنّ الـ24 ساعة الاخيرة بَدت كالجحيم. ومع تناقل وسائل الاعلام صباح الاحد خبر وقف إطلاق النار منذ الساعة السابعة صباحاً في معركة الجرود، وضمن اتفاق شامل مع «داعش» ينهي المعركة ويُكشف فيه مصير العسكريّين، تداعى الاهالي الى التجمّع في الخيمة ومواكبة الاخبار لحظة لحظة.
«رصاص» الشائعات
طوال قبل الظهر بَدت ساحة رياض الصلح كمدينة أشباح، الصمت سيّد الموقف، تخرقه تنهدات الامهات الملوعات، وتسارع طرقات قلوب الزوجات.
وبين الفنية والأخرى تعلو الشتائم بحق بعض وسائل الإعلام التي تنافست في ما بينها على إرسال الاخبار العاجلة، التي شكّلت رصاص إعدام لأعصاب الاهالي، ومع كل رنة «نوتيفيكيشن»، إشتدت أعصاب الاهالي وارتفع ضغط البعض منهم، لتعلو الصرخات: «يا عمّي إشفقوا علينا هَيدي مش مبارزة ولا سبق صحفي». ليحاول حسين يوسف ضبط الاجواء بما تبقى لديه من قوة، قائلاً: «إنتظروا يا جماعة زيارة اللواء لنا».
الحقيقة الصعبة
مال النهار، واقترب المغيب، فيما غنوة مرة تُحاول الإطمئنان على وحيدها الذي تركته مع أقاربها، ومراراً تجول بنظراتها على مداخل ساحة رياض الصلح، متسائلة: «من أين قد يطل اللواء عباس إبراهيم برأسه؟».
حالها كحال الامهات اللواتي يحاولن إخفاء دموعهنّ، إلى أن وصل اللواء إبراهيم عند الساعة 4,45 بعد الظهر، شاحب اللون، ووجهه خال من أي تعبير. وصل ضمن موكب متواضع، من دون أي زمور أو حركة لافتة، وما إن وصل حتى غصّت الخيمة بالصحافيين والامنيين.
بداية، حاول اللواء التحدث إلى حسين يوسف نظراً لتعذّر الاستماع وسط ضجيج الحاضرين، ولكن بعد جهد جهيد تحدث الى الاهالي قائلاً: «كرامة الارض والوطن تستدعي أحياناً أن نقدّم أرواحنا ودماءنا فداء الوطن».
ولفت الى أنه «في الوقت الذي وصلتُ الى هنا، كان الجيش اللبناني والامن العام ينتشلون رفات نعتقد شِبه جازمين أنها للعسكريين، ولكن لا يمكننا أن نثبت ذلك إلى حين صدور الفحوص العلمية الـ DNA».
وأضاف: «إلى حين وصولي إلى هنا كنّا قد استخرجنا رفات 6 اشخاص يعتقد انهم الجنود لأنهم يلبسون رناجر عسكرية، والعمل مستمر، ونتوقع ان يتصاعد العدد الى ثمانية كما أفادت عصابات داعش المجرمة».
وتوجّه إلى الاهالي قائلاً: «أشدّ على أيدي اهالي العسكريين، كنت اريد ان يقفل هذا الملف كما أقفل الذي قبله، لكنّ خيارنا الاستشهاد، وكانت لدينا معلومات غير مؤكدة منذ أواسط شباط، ولو اننا تحدثنا فيها منذ ذلك الوقت لكان الوَقع أصعب على الاهالي». وذكّر بالجثث «التي عثر عليها في الشتاء في منطقة معلولا، واستغرق فحص الـ دي.ان.اي وقتها 3 اسابيع»، متمنياً «ألّا يستغرق الفحص الوقت ذاته الآن».
وتحدث إبراهيم عن شروط «داعش» لوقف إطلاق النار والتي رفضها «إلّا باتفاق شامل بنده الاول الكشف عن مصير العسكريين»، وأكد انّ «قيادة «داعش» تحت ضربات الجيش اللبناني انتقلت الى داخل الاراضي السورية، وتولى «حزب الله» والدولة السورية التفاوض، ولا تزال هناك بعض الفلول في الاراضي اللبنانية».
امّا بالنسبة الى انتقالهم إلى شمال سوريا، فقال: «هذا الموضوع له علاقة بمسار تفاوضي كبير خلفه دول، والذين استسلموا من «داعش» هم الذين أرشدونا الى مكان وجود رفات الجنود. معركة فجر الجرود لن تنتهي حتى رحيل آخر داعشي»، لافتاً الى «أننا كنّا نبحث على بعد امتار عن المكان الذي وجدنا فيه الرفاة في وادي الدب داخل الاراضي اللبنانية»، نافياً وجود مغارة.
وتوجّه ابراهيم الى أهالي العسكريين بالقول: «باسمي وباسم قائد الجيش الذي تحدثتُ اليه قبل مجيئي الى هنا، أحيّي صمودكم وصبركم، ويجب ان تعتزّوا بأبنائكم لأنها كانت ارادتهم. نحن لا نساوم ولم نساوم، نحن في موقع المنتصر وفرض الشروط، وستسلّم الجثث الى المستشفى العسكري، والعلم سيقطع الشك باليقين من خلال الفحص».
وأشار إلى أنّ هناك اتفاقاً بين «حزب الله» والدولة السورية، وأنه هو، أي اللواء ابراهيم، الطرف الثالث. ورجّح انسحاب «داعش» في اتجاه البادية او دير الزور، نافياً وجود معلومات عن المطرانين بولس اليازجي ويوحنا ابراهيم والمصور الصحافي سمير كساب.
رفات ثمانية أشخاص
ومساء، أعلنت قيادة الجيش أنه «في إطار متابعة العسكريين المخطوفين لدى تنظيم «داعش» الأرهابي تمّ العثور في محلّة وادي الدّب/جرود عرسال على ثمانية رفات لأشخاص، وقد تمّ نقلها الى المستشفى العسكري المركزي لإجراء فحوص DNA والتأكد من هوية أصحابها. وسيُصار الى إصدار بيان فور ورود نتائج الفحوصات».
صفحة مؤلمة طويت، وسؤال يقضّ مضاجع الاهالي: «لماذا التكتّم عن مصير العسكريين لسنوات وتركنا نتعذّب؟». عزاؤهم في كلمات الاخوين رحباني انّ «سالم غفيان مش بردان، نايم عَ تلّه وبيضلّ يصلّي بقلبو الإيمان، ومغطّى بعلم لبنان».
المصدر – الجمهورية