من موقع الانفجار .. آخر ما يتذكره علي!
الشابة بكامل أناقتها تراقب المشهد بقلق. قلق بدا مبرراً في ظل الحديث عن وجود انتحاري ثالث، ربما رابع أو خامس. لماذا لا تبتعد هي الأخرى؟
أزيز رصاص يخرق مساحة الأصوات المزدحمة. يخترق عويل امرأة افترشت الرصيف، لكنه لا يقوى على تفريق الحشود. تلك عادة لبنانية سيئة. تسأل شابة أمام مدخل مشفى الرسول الأعظم “لماذا لا يتفرقون؟ لماذا يتجهون إلى مكان الانفجار؟”. الشابة بكامل أناقتها تراقب المشهد بقلق. قلق بدا مبرراً في ظل الحديث عن وجود انتحاري ثالث، ربما رابع أو خامس. تختلط الأقاويل هنا حيث نقف غير بعيدين عن الشابة مقابل مدخل المشفى حيث يدور الحديث عن انتحاري طليق.
لماذا لا تبتعد هي الأخرى؟ يتبين أنها مراسلة لوسيلة إعلام أجنبية. تقتضي مهمتها الصحافية التواجد في قلب الحدث على تخوم الخطر وربما في دائرته.
رشقات الرصاص تخترق الفوضى. هي آخر وسيلة لمحاولة تفريق الحشود. الفوضى قادرة في لحظات كهذه على إعادة تنظيم نفسها. مشهد لبناني محض. تتفرق الحشود ثم تعود. تتوزع كأسراب الطيور ثم تعيد تشكيل نفسها. هنا مقابل مدخل المشفى، عند أول “نزلة الرسول الأعظم” نحاول أن نلتقط ما يجري بعد لحظات من وصولنا.
يتفكك السرب أخيراً، يتقلص، ولا يختفي كلياً. تتدخل أصوات عاقلة لإقناع الشبان بأن ثمة خطر في التجمهر أمام باب المشفى. هناك من بقي وهناك من لايزال يأم المكان. من بينهم امرأة تتجه صعوداً نحو المشفى الذي لا يبتعد أكثر كيلومتر من مكان الانفجارين. يداها تلطمان ركبتيها.. “يا أمي”. تنادي مقطوعة الأنفاس.. “يا أمي” تنادي بقنوط كأن قلبها حدس بما لا ترغب بتصديقه. لا تعرف بعد. يهمس شاب يبدو أنه يعرفها ويعرف ابنها. نتأكد منه بأن المنادى استشهد.
أمام المشفى، أول محطة بعيد وصولنا، تختلط المعلومات وتتنافى الروايات. انتحاريان؟ ثلاثة؟ بعضهم سمع عن أربعة. في الانفجار الأول قضى اثنان، أحدهم أصيب بانفجار زميله يقولون، وفي الانفجار الثاني قضى ثالث، وألقي القبض على رابع. ثمة من يؤكد وجود انتحاري طليق. لا نعرف بعد. الأمر الأكيد الذي ينجلي أمامنا في هذا المكان، في هذه اللحظة، هو مشهد العيون الوجلة. عيون زائغة تترقب في انتظار ممض وحاد وثقيل. أهال وأقارب تجمعوا هنا. بعضهم وصل من مشاف أخرى لم يعثروا فيها على أحبتهم بعدما فقدوا الاتصال معهم. البعض الآخر تأكد من وجود أقاربهم في غرفة العمليات ولم يعد أمامه سوى الانتظار والدعاء. آخرون يبحثون عمن يرشدهم إلى ضالتهم.
نترك المشفى ونتجه نزولاً صوب موقعي التفجيرين. نمر أمام أجساد حذرة وأخرى متيقظة، تراقب أي تحرك مشبوه. سيارات إسعاف تشق الطريق صعوداً. امرأة تسير بعكس اتجاهنا، تتكلم على الهاتف بصوت يخنقه الخوف، لكنه ينطلق مع ذلك مدفوعاً بقدرة غير مرئية لأم تبحث عن ابنها.. “آلو.. عم تسمعني، ألو”.. “الصوت عم يقطع” تشتكي لشابة ترافقها يبدو أنها ابنتها، ولا نعرف إذا سمعت شيئاً من الطرف الآخر على الهاتف.
نصل موقع التفجير الثاني وتصير الرواية أكثر جلاءً. هنا وقفت سيارات النقل المباشر ونصبت الكاميرات. مراسلون على الهواء وآخرون يدونون ويبحثون عن شهود عيان. في المكان زجاج متناثر، دماء منتشرة على الجدران، واجهات محطمة وبقايا أشلاء.
مقابل “حسينية الإمام الحسين” او ما يعرف بـ”حسينية الرمل” يجلس شاب غير قادر على الكلام. يقول إنه لم يسترد وعيه بالكامل بعد. هنا تماماً وقع الانفجار الثاني. بمحاذاة كشك “الأكسبرس”. تحطم الكشك وتناثرت معه أرواح بريئة كانت قبل ساعة تراودها أحلام بسيطة. بسيطة بحجم لقمة الخبز. بسيطة ببساطة مواطنين فقراء يعيشون في حي بائس. كتب عليهم في زمن بائس الموت بالبارود وشظايا الإرهاب والتكفير.
علي الحلبي العامل في كشك “الأكسبرس” لم يستعد سمعه بالكامل. لا يعرف كيف نجا. يتذكر أنه طار أمتاراً عدة وارتمى على الأرض، ثم رأى الدخان والنار. قبل ذلك يتذكر أنه سمع الانفجار الأول ورأى الناس تتراكض أمامه. خرج المصلون من مسجد قريب وعندما وصلوا أمام الكشك ليستطلعوا ما حدث، دوى الانفجار وسط الحشد. هو لا يتذكر عادل ترمس. آخرون يتذكرون كيف رمى نفسه باتجاه الانتحاري قبل أن يتشظى معه. جاره في المحل المقابل يتحدث عن حالة ضياع غشت رأسه فور وقوع الانفجار. يتذكر رائحة البارود وأجساداً لم تمت من الفقر وقتلها الجهل.
موقع الانفجار الثاني يتوسط الطريق بين موقع الانفجار الأول و”مشفى الرسول”. بين الانفجارين أحلام بسيطة تناثرت. بعد الانفجارين امرأة على طريق المطار لم تقو على الوقوف. جلست على الرصيف تنادي زوجها ولا تريد أن تصدق أن صوته صار بعيداً.