ميقاتي للجميع | إياكم .. إقالته تعني استقالتي فورا… ؟!
“تحت عنوان “عويدات يخشى الإدّعاء… وميقاتي يهدّد: أستقيل فوراً”، نشرت الاخبار سلسلة التقارير التالية:
وقائع المفاوضات حول مصير سلامة
مَن يحمي رياض سلامة؟
ليس في لبنان من هو أقوى من رياض سلامة، أو من لديه هذا النفوذ الاستثنائي الذي حفره الرجل على مدى ثلاثة عقود في كل جوانب الدولة. لم يكن يوماً حليفاً لأيّ رئيس للجمهورية، لكن لم يأت إلى قصر بعبدا من نجح في تغييره. لم يسبق سلامة إلى منصبه سوى الرئيس نبيه بري في رئاسة المجلس النيابي، ورئيس المجلس، كما بقية أعضاء المجلس، لم يكن على جدول أعمالهم يوماً بند اسمه حاكم مصرف لبنان. ولا داعيَ للحديث والشرح عن علاقته مع من تعاقبوا على رئاسة الحكومة، والأمر نفسه ينطبق على كل زعماء القبائل والعصابات المسماة «جماعات لبنانية».
رياض سلامة يحظى، أولاً وأخيراً، بحماية أقوى مؤسسة تحمي النظام العفن في لبنان: البطريركية المارونية في بكركي. والبطريرك بشارة الراعي هو من يرفع سيف الله فوق كل من يفكر في النيل من الحاكم. ولا يقتصر حبّ سلامة على بكركي، فهو حبّ جرف معه دار الفتوى والمجلس الشيعي ومشيخة عقل الدروز، وبقية الكنائس المسيحية. وفوق هؤلاء، كان سلامة الرجل الأكثر مهابة عند كل من تعامل بالمال والأعمال في لبنان خلال ربع قرن. ما من مصرف أو مصرفي لا يطيعه. ولا يوجد رجل أعمال متوسط أو كبير لا يخشاه. وما من تاجر أو صاحب صناعة ليس لديه عمل معه… ولا يمكن، بالطبع، فصل نادي الإعلام والسياسيين عن هذه الدائرة. هل يحتاج الرأي العام، فعلاً، إلى من يكشف عن حجم القروض والمساعدات التي قُدّمت لغالبية وسائل الإعلام وكبار الإعلاميين في لبنان (هناك ملف بات جاهزاً لدى المعنيين لكن لا نعلم من يمكنه كشفه)؟ وإلى جانب هؤلاء، جيش المنظمات غير الحكومية، والجيش وقوى الأمن الداخلي وكل الأجهزة الأمنية من دون استثناء، أضف إليهم جمعيات خيرية وأهلية وأندية رياضية ومؤسسات تربوية وجامعات ومستشفيات وكل من عاش في فقاعة الاقتصاد الريعي خلال ثلاثة عقود.. كل هؤلاء هم جيش رياض سلامة.
لكن ما لم يكن ظاهراً للعيان، وإن بدت آثاره واضحة، هو في حجم نفوذ الرجل داخل القضاء، السلطة التي يقال إنها حصن العدالة وحامية الحقوق. وهي، اليوم، تواجه واحداً من أقسى الاختبارات يتعلق بحقوق الناس، العاديين منهم والمجتهدين. القضاء الذي لا يجرؤ معظم من يمسكون بحلقاته على ملاحقة سلامة وكل ناديه المصرفي والمالي والتجاري الذي لم يتوقف حتى اليوم عن اللعب بما تبقّى من اموال الناس والدولة.
لنترك جانباً الحصانة الخارجية، وهي لا تقتصر على الولايات المتحدة، صاحبة الكلمة الفصل في كل من يريد حمل الدولار، بل تشمل عواصم أوروبية وعربية أيضاً، من أنظمة سقطت لكنّ رجالاتها أبقوا أموالهم أو حفظوها وسيّروها في مسارب النظام المالي اللبناني، وبينهم من فرض بقوة المال تهريب ما أمكنه بعد 17 تشرين.
اليوم، ثمّة جديد في ملف رياض سلامة. وبعد فتح التحقيقات التي رافقت عمليات التدقيق الجنائي في حسابات الدولة ومؤسساتها، ومنها مصرف لبنان، وترافقت مع التحقيقات الجارية في الخارج، صارت الصورة مختلفة قليلاً. وثمة شعور قوي لدى غالبية المتعاملين بالملف أن وضع رياض سلامة في شباط 2022 لا يشبه وضعه في أي زمن سابق، وأن المجريات التي سمحت بتحقيقات، ولو ضاقت عليها الجدران، تقود إلى خلاصة أكيدة: إن بإمكان القضاء اللبناني الادّعاء على رياض سلامة بجرم اختلاس الأموال العامة!
ماذا في المجريات؟
يوجد اليوم في مكتب المدعي العام التمييزي غسان عويدات ملف متكامل يتضمّن ما يكفي من أدلة ومعطيات تسمح بالادّعاء على سلامة. لكن من يقوم بالخطوة؟ هل يفعلها عويدات نفسه، أو يطلبها من مدّع عام آخر، كالمدعي العام المالي علي إبراهيم مثلاً؟ وهل يبادر إلى الخطوة من دون العودة إلى السلطة السياسية، أم يعود إلى نغمة التنسيق والتشاور «حفظاً للمصلحة الوطنية العليا»، وعندها نعود إلى مربع حفظ الأوراق في الأدراج؟ هذا ما يقودنا إلى أنه، على المستوى القضائي، ليس هناك اليوم من يجرؤ على خطوة الادّعاء. وكلٌّ سيطلب لنفسه الوقت للدرس والتشاور مع أقطاب النادي السياسي. ولذلك حصل الآتي:
– وجد القاضي عويدات أن الملف أكبر من أن يتحمّله هو أو القضاء. لذلك قال إن قراراً بهذا الحجم يجب أن يصدر عن أعلى سلطة سياسية، أي عن مجلس الوزراء. لذا حمل ملفه وتوجه إلى الرئيس نجيب ميقاتي، وصارحه بأن ما لديه يكفي للادّعاء على سلامة وربما ما هو أكثر. وشرح عويدات لميقاتي أن ما يجري من تحقيقات في الخارج لا يمكن وقفه، وبالتالي على الحكومة أخذ القرار. فإما إن تبادر إلى تنحية سلامة وتعيين حارس قضائي على مصرف لبنان في حال لم تعيّن بديلاً عنه، أو تسمح للنيابة العامة بالادعاء عليه وبالتالي يصبح الحاكم ملزماً بالتنحي ريثما ينتهي التحقيق.
– لم ينتظر ميقاتي كثيراً للإجابة. أولاً، هو مقتنع بأن قرار إقالة سلامة ليس محل توافق في مجلس الوزراء. وثانياً، هو يشرح لمن يهمه الأمر الأسباب الخارجية التي تجعل سلامة محصّناً من أي قرار حكومي في لبنان. لكن لميقاتي نظريته التي تقول إنه لا يجوز للبنان أن يبادر إلى خطوة من هذا النوع وهو يستعد لتفاوض صعب مع صندوق النقد الدولي، وأن سلامة ضامن لعدم حصول انهيار كبير في سعر العملة الوطنية، وقد اتفق معه على آليات لجعل سعر الدولار أقل بكثير مما كان عليه نهاية العام، ويسعيان إلى جعل سعر الدولار يتراجع عن سقف العشرين ألف ليرة أيضاً.
– أبلغ ميقاتي عويدات أنه لا يمكن المبادرة إلى خطوة من هذا النوع من دون العودة إليه. وبالطبع، لم يغب عن بال رئيس الحكومة لفت انتباه المدعي العام التمييزي إلى أنه هو من منع تمرير مشروع تشكيلات قضائية واسعة كانت ستطيح به. وذكّره بأن الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل اجتهدا لإقرار تشكيلات تطيح به، وكادا يُقنعان رئيس المجلس بالأمر، وأنه هو من منع هذه الخطوة. وبالتالي، على عويدات أن يتصرف على قاعدة أن ميقاتي هو مرجعيته اليوم، خصوصاً بعد الوضع الذي استجدّ بغياب الرئيس سعد الحريري. وكان ميقاتي حاسماً مع عويدات بأن أي خطوة تخصّ حاكم مصرف لبنان يجب أن تُناقش معه مسبقاً وتنال موافقته.
ولم يكتف ميقاتي بذلك، بل سأل عويدات عمن يمكنه أن يدير مصرف لبنان في حال إقالة سلامة اليوم، وهل يمكن لحارس قضائي أن يدير اللعبة بطريقة ذكية؟ لينتهي إلى خلاصة: سأناقش الأمر مع عون وبري ونتخذ القرار المناسب.
– قصد ميقاتي رئيس الجمهورية، وأبلغه أن إطاحة سلامة اليوم ستؤدي حكماً إلى تعطيل مشروع التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وأن مثل هذه الخطوة ستخلط الأوراق، وأن الليرة ستكون مهدّدة بانهيار غير مسبوق، ما يهدّد باندلاع موجة احتجاجات شعبية، قبل أن يخلص إلى الموقف – التهديد: إذا أقيل سلامة، سأستقيل فوراً!
– لدى رئيس المجلس النيابي صورة للمشهد من زاوية ثانية. يعرف بري أنه لم يعد بالإمكان حماية سلامة أكثر.
وهو مطّلع أيضاً على تفاصيل كثيرة تتعلق بالتحقيقات الجارية. لكنه أدار الأمر مع ميقاتي ومع الآخرين من زاوية أن إقالة الحاكم تنقل صلاحياته إلى نائبه الأول، وهو شيعي، وفي حال لم يكن هناك تفاهم أو اتفاق على بديل عن سلامة، سيتحول قرار إقالته أو عزله إلى مشكلة بين الشيعة والموارنة على من يدير مصرف لبنان، مشيراً إلى أنه لا يمكن رمي كرة النار بيد الشيعة وهي ليست من مسؤوليتهم. ولم يغب عن بال بري تكرار معزوفة ميقاتي والآخرين: من يتحمل نتائج إقالة سلامة الآن؟ وماذا لو انهارت الأمور دفعة واحدة وقادت إلى الانفجار الكبير؟
– في القصر الجمهوري، النقاش مختلف. صحيح أن عون لا يريد فراغاً في منصب الحاكم. لكنه يقدم الأهم على المهم الآن، وهو مستعد لتغطية أي شخص يتولى إدارة المصرف المركزي إذا التزم بموجبات التدقيق الجنائي وعدم عرقلة التحقيقات المحلية أو الخارجية. لكن عون يعرف أن هاتفه سيرنّ، وهذا ما جعله ينتظر البطريرك الماروني الذي لا يتأخر في تقديم الأمر على صورة أن هناك من يريد إطاحة أقوى موقع ماروني في الإدارة العامة، إذ لا يترك البطريرك مناسبة إلا ويثير الأمر من زاوية: هل تقبل يا فخامة الرئيس أن تترك هذا الموقع الحساس للشيعة؟
– لا يحتاج رئيس الجمهورية إلى عون من أحد في هذه اللحظة. سارع إلى مباغتة البطريرك الماروني: سيدنا، هل تعرف ماذا قال لي السيد حسن (نصرالله) حول هذا الأمر؟ صمت الراعي منتظراً الجواب، فأضاف عون: نحن لا نقبل إطاحة ماروني ليشغل شيعي منصبه. لذلك، اعقدوا جلسة للحكومة، وعيّنوا البديل ثم أخرجوا سلامة. أُسقط في يد الراعي الذي ذهب ليبحث عن وسائل حماية جديدة للحاكم، علماً أن على البطريرك الاستعداد للإجابة عن أسئلة حول حقيقة تحويل حسابات تخصّ الكنيسة من الليرة إلى الدولار وحتى خروج بعض الحسابات إلى الخارج. قد يخرج من يقول إن هذا الكلام هو جزء من حملة، لكن لماذا يحرم علينا السؤال: لماذا لا ترفع الكنيسة السرية عن حساباتها المصرفية وتظهر لرعاياها وبقية اللبنانيين حقيقة ما تملك وكيف تصرف وأين؟
ثمّة وقائع كثيرة تُدمي القلب حول ما يجري بشأن مصير حاكم مصرف لبنان ومصير الودائع وواقع القطاع المصرفي والأموال المهرّبة أو المنهوبة أو خلافها. لكن، حتى لا يقع الناس ضحية استغلال سياسي جديد، يجب لفت الانتباه إلى أن الفساد الذي يلفّ لبنان كله، لا يمنع الحكومة، من أن تتحمّل المسؤولية لنصف ساعة فقط، وأن تجد من يخلف سلامة، ويفتح الباب أمام أكبر عملية تنظيف يحتاج إليها لبنان قبل الشروع في أيّ عملية بناء جديدة!
هل بات في الإمكان الإدعاء على سلامة؟
السؤال لا يمكن أن يرد في السياق التقليدي لمعالجة الملفات القضائية. هناك شقّ إجرائي يتعلق بالتحقيقات القائمة لدى أكثر من جهة، وشقّ سياسي يتصل بمن يملك سلطة القرار في الادّعاء من عدمه. لكن الأهمّ هو الشق العملاني الذي تختلط فيه الاعتبارات المحلية والخارجية، وتندرج تحته قوى ومرجعيات دينية وسياسية وحزبية وحكومية ونيابية، إضافة إلى الموقف الأميركي الذي لا يزال يحكم عمل كثيرين في لبنان، وفي مقدّمهم من يقود القضاء اليوم. ولدى هؤلاء جواب واحد: رياض سلامة ثابتة أميركية غير قابلة للاهتزاز!
الجديد، بحسب ما علمت «الأخبار»، أن الملف القضائي بكل تفاصيله بات جاهزاً لدى النيابة العامة. وقد أبلغ القاضي غسان عويدات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وزملاء له في القضاء، بأن الملف اكتمل، وما ينقصه لا يمنع الادّعاء مباشرة على سلامة بتهمة اختلاس الأموال العامة وسوء استغلال السلطة.
ويشتمل الملف، بحسب المعطيات، على نتائج التحقيقات التي أجراها اكثر من قاضٍ، سواء ما قامت وتقوم به النائب العام في جبل لبنان القاضية غادة عون، أو الملف الأكثر تفصيلاً ودقّة الذي استُدعي القاضي جان طنوس من النيابة العامة المالية لمتابعته والإشراف عليه، ويتولّى متابعة تفاصيل الملاحقات والمتابعات القضائية الجارية خارج لبنان أيضاً. علماً أنه عرضة لـ«حصار» وعملية «تضييق» يستهدفان منعه من القيام بأمور من شأنها تعزيز ما لديه من معطيات.
لكن ما بين يدَي القاضي عويدات لا يحتاج إلى عناصر إضافية ليتم الادّعاء رسمياً على سلامة في لبنان. وفي حال تُرك طنوس يتابع تحقيقاته، خصوصاً مع المصارف التي تمنّعت عن تسليمه تفاصيل بعض الحسابات، سيكون الملف أكثر قوة وفيه من الأدلّة ما يسمح للقضاء في أوروبا بالإقدام على خطوات إجرائية تسهّل صدور أوامر بالحجز على ممتلكات سلامة ومنعه من التصرف بأموال مودَعة باسمه في حسابات مصرفية، وتفتح الباب أمام القضاء في لبنان وأوروبا لملاحقة «الشركاء المفترضين لسلامة» في أوروبا، من مصرفيين ومصارف ومؤسسات مالية.
أصل القصة
بحسب المعطيات، أخذ متابعو الملف القضائي لسلامة في الاعتبار الصلاحيات غير العادية التي يتمتّع بها الحاكم. فهو، إلى جانب كونه يتولّى منصبه منذ الأول من آب 1993، لم يحصل أن تجرّأت حكومة على عدم التجديد له منذ ذلك التاريخ. وإلى ما تنص عليه القوانين، يملك سلامة نفوذاً أسطورياً يجعله «الرقم الصعب» لدى كل المتعاقبين على السلطات التشريعية والتنفيذية والأمنية والقضائية والإعلامية، إضافة إلى كل من يتعامل في قضايا التجارة والصناعة والأسواق المالية. وهو يستند إلى القانون الذي يمنحه صلاحيات تجعله يتحكّم بكلّ شاردة وواردة في مصرف لبنان، من منصب الحاكم ونوابه إلى المجلس المركزي إلى الهيئات المتخصّصة القائمة أو التي استجدّت، ولا سيما هيئة التحقيق الخاصة. وهي الوحدة الأكثر خطورة نتيجة مهامّها التي تتيح لها الاطّلاع على كل ما تحتاج إليه من معطيات وتجاوز السرية المصرفية والتدقيق في الحسابات العائدة إلى أفراد أو شركات، وهي تتولى، عملياً، التنسيق مع المنظمات الدولية، خصوصاً مع الحكومة الأميركية التي لديها في لبنان عمل كبير تحت عنوان «مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال». سلطات سلامة تخوّله حتى منع كل هذه الهيئات والأطر، بما فيها المجلس المركزي، من الانعقاد في غيابه، كما يملك سلطة منح الامتيازات والعطاءات من خلال المصرف المركزي مباشرة، أو المؤسسات التابعة له من مصارف وكازينو وشركة الطيران الوطنية، إضافة إلى نفوذه الكبير على غالبية المصارف اللبنانية التي تولى دعمها، سواء من خلال برامج الدمج في تسعينيات القرن الماضي أو الهندسات المالية في العقد الماضي، عدا عن نظام الفوائد الذي أتاح تعاظم ودائع أفراد ومؤسسات من «علية القوم» سواء كانوا لبنانيين أو مستثمرين عرباً وأجانب.
امتثال المصارف بتسليم تفاصيل بعض الحسابات يسمح بملاحقة الشركاء المفترضين لسلامة في أوروبا
لكنّ القوانين التي أعطت سلامة، مباشرة أو بطرق ملتوية، كل هذه الصلاحيات، منعت عليه القيام بأي عمل يمكن أن يُعدّ في إطار «تضارب المصالح». لذلك، فإن المواد الواردة في قانون النقد والتسليف (المادة 20 تحديداً) تمنع على الحاكم الإبقاء على أي مصالح أو أعمال له في أي شركة خاصة. وهو ما دفعه إلى البحث عن وسائل للالتفاف على القوانين من خلال شركاء له، هم في حقيقة الأمر، إما أفراد من عائلته أو مساعدون ومستشارون عملوا ويعملون لديه.
بعد تولّيه منصبه عام 1993، بادر سلامة إلى تعديل في محفظته المالية الخاصة، فعمد إلى سحب ما يقارب 15 مليون دولار من حسابات يملكها بقيمة تصل إلى 24 مليون دولار، ونقلها إلى حساب خاص بشقيقه رجا، واحتفظ ببقية المبلغ باسمه في حسابات في مصارف أوروبية عدة، محتفظاً بعلاقة «مكتومة» مع مؤسسة «ميريل لينش» التي كان يعمل فيها قبل تعيينه حاكماً من الرئيس الراحل رفيق الحريري.
وتبيّن لاحقاً أن الـ 15 مليون دولار التي نُقلت إلى اسم رجا، أُودعت في حسابات عدة في مصرف الموارد (يرأس مجلس إدارته المصرفي مروان خير الدين المقرّب من سلامة نفسه والمحسوب سياسياً على النائب طلال أرسلان). لكنّ محامياً متخصّصاً في الملف، قال لـ«الأخبار» إنه لا يوجد لدى المحققين ما يثبت رسمياً هذه المعلومات، رغم أن الحاكم نفسه كان أودع القضاء نسخاً عن كشوفات بهذه الحسابات. والمشكلة، هنا، تكمن في أن العملية الحسابية التي عمل عليها المحققون، أظهرت أن 15 مليون دولار زادت إلى نحو 150 مليوناً، وأن عملية الاستثمار فيه على مدى عشرين سنة، اشتملت على عمليات نقدية وليس عبر تحويلات مالية. ولا ينفي المحامي وجود عملية سحب لنحو 650 ألف دولار (بالليرة اللبنانية) قبل انتفاضة 17 تشرين 2019.
خدمات متبادلة بين سلامة و«الموارد» مقابل منع التحقيق مع الأخير بناءً على توصيات لجنة الرقابة
وبحسب المتابعين للتحقيقات، فإن مشكلة هذا الحساب تقف عند نتائج الاستجوابات التي جرت مع الحاكم نفسه. فهو أقرّ بأن شقيقه عاد وسلّمه المبالغ التي تم سحبها من مصرف الموارد، إلا أن التدقيق في ملفات تخصّ حساباً لرياض سلامة في مصرف لبنان لا يُثبت هذه الوقائع، ما دفع بالقضاء إلى التشكيك في إفادة الحاكم وتعزيز النظرية التي تقول إن هناك عملية جارية لتبييض الأموال. وتعزّزت هذه الوجهة مع شكوك بدور خاص لمصرف الموارد. ويجري الحديث هنا عن حماية خاصة وفّرها الحاكم للمصرف المذكور بمنع إحالته ملفاته إلى التدقيق والتحقيق بناءً على توصيات لجنة الرقابة على المصارف التي أفادت في تقرير لها بأن موجودات المصرف تقلّ بكثير عن مطلوباته.
لكن ما جعل السلطات القضائية على «قناعة بوجود شبهة قوية»، هو ما أكده لـ«الأخبار» مصدر بارز في مصرف لبنان، بأنه إلى ما قبل سنة تقريباً، لم تجب هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان على طلبات الجهات القضائية إيداعها نسخة عن كامل حسابات رياض سلامة، الذي رفض الكشف أيضاً عنها بحجة أنها تخضع للسرية المصرفية.
في هذا السياق، حاولت الجهات القضائية متابعة الملف الخاص برجا سلامة، فطلبت من خمسة مصارف على الأقل تزويدها بنسخ مصدَّقة تتعلق بحساباته لديها وحركتها خلال فترة زمنية معيّنة، بعدما قرّر القضاء «الاشتباه في رجاء سلامة بجرم الإثراء غير المشروع». لكنّ المصارف المعنيّة أصرّت على رفض التعاون حتى بعدما أرسل القضاء في طلب مدرائها لهذه الغاية، وسط خلاف بين النيابة العامة ومحامي هذه المصارف حول ما إذا كان بند السرية المصرفية ينطبق على هذه الحسابات في ظل هذا النوع من التحقيق وهذا النوع من الاشتباه (الإثراء غير المشروع)، وهو ما دفع بالقضاء إلى البحث في إجراء يقتضي تنفيذ المهمة بالقوة، الأمر الذي مُنع القاضي جان طنوس من تنفيذه قبل مدة بقرار من رئيسه القاضي غسان عويدات. وبرّر الأخير الأمر بأنه نتيجة طلب رسمي لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
ألمانيا تنضمّ إلى تحقيقات الخارج: عقارات ومئات الملايين تتنقّل بين لبنان وأوروبا
تلقّى لبنان، مطلع الأسبوع، طلب تعاون قضائي جديد في ملف حاكم مصرف لبنان من ألمانيا. علماً أن لدى برلين ملفات كثيرة تريد متابعتها في لبنان، منها ما يتعلق برياض سلامة وبآخرين، ويقع قسم منها تحت شبهة تبييض الأموال.
يشار إلى أن التعاون اللبناني – الأوروبي ليس يسيراً كما يعتقد كثيرون، إذ تبين لمتابعين في باريس وبرن أن هناك من يمارس الضغط في فرنسا وسويسرا لعدم شمول التحقيقات مصارف ومصرفيين من هذه الدول بتهمة تسهيل عمليات تبييض الأموال التي يشتبه في أن سلامة يقوم بها. ولذلك تأخّر كثيراً التعاون السويسري مع لبنان، وشهد الشهر الماضي أول تعاون وثيق مع برن، إذ أرسلت سويسرا إلى لبنان مجموعة من الأدلة المرتبطة بالتحقيق، من بينها ما يتعلق بشركة «فوري». وترافقت خطوة سويسرا مع قيام لوكسمبورغ بتسليم موادّ صارت في حوزة المحققين لديها تتعلق بسلامة، علماً أن السلطات هناك ادّعت عليه. بينما أعرب الجانب الألماني عن «اعتقاده» بأنه «من المنطقي النظر في أصل الأموال التي جمعها رياض سلامة منذ توليه منصبه كحاكم مصرف لبنان، لأن ما ظهر أنه بحوزته يفوق قدرته على تحقيقه من أعمال مشروعة».
سابقاً، كانت سويسرا أول من افتتح الملاحقة الجنائية بحق سلامة في الخارج. تقدّم لبنانيون يقيمون في أوروبا بدعاوى مختلفة ضد حاكم مصرف لبنان وضد مصارف ومصرفيين بتهمة اختلاس وتبييض الأموال وهدر أموال المودعين في المصارف اللبنانية. صحيح أن المعلومات حول تفاصيل ما يجري هناك لا تزال نادرة، لكنّ الواضح بحسب مصدر مطّلع، «أننا سنكون قريباً أمام جولة جديدة من المواجهة في عدد من الدول الأوروبية. وهي مواجهة لن تقتصر على القضاء بل على المسرح الإعلامي أيضاً، في ضوء توفر الكثير من المعطيات التي تتيح ملاحقة سارقي أموال اللبنانيين».
وبالعودة إلى الملاحقات الجنائية بحق سلامة وفريقه، فإن الاستنابة السويسرية كانت قد أفادت بأن رجا سلامة عمد إلى تحويل 207 ملايين دولار أميركي إلى حساباته في لبنان. وهي المعلومة التي تمّت مشاركتها مع أجهزة قضائية أخرى في أوروبا. وتبين في المتابعات القضائية الجارية في سويسرا وألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ، أن لدى المحققين هناك معطيات تشير إلى أن رياض سلامة عمد إلى إقامة هيكلية كاملة من الشركات والحسابات التي يتم من خلالها تحريك الأموال بأكثر من طريقة. وأشارت المعطيات إلى أن هذه الجهات تشتبه في أن سلامة أعدّ خطة مُحكمَة جعلته يقوم بعمليات شراء لأسهم تمكّنه من تملّك شركات، كان سبق لها أن تملّكت شركات أخرى، وهذه الشركات اشترت عقارات في عدد غير قليل من المدن الأوروبية.
كما تبين للجهات الأوروبية أن ماريان الحويك، المساعدة الخاصة لحاكم مصرف لبنان، تملّكت عقارات في بيروت وباريس بمبالغ تفوق قدرتها المالية وتتجاوز بكثير حجم المخصّصات التي تحصل عليها نتيجة وظيفتها في مصرف لبنان.
وتشير وجهة التحقيقات الأوروبية إلى أن الأموال التي استُخدمت في هذه الدورة المالية، كان مصدرها حسابات تخصّ رياض سلامة في مصرف لبنان. وهو ما دفع بالجهات الأوروبية إلى الطلب صراحةً إلى لبنان المساعدة في الآتي:
– الحصول على كشوفات مدقّقة لحسابات حاكم مصرف لبنان في المصرف المركزي وحركتها خلال فترة زمنية معينة.
– الحصول على كشوفات تخصّ حسابات شقيقه رجا سلامة في عدد من المصارف اللبنانية لحسم الجدل حول ما إذا كانت هذه الأموال هي التي استُخدمت في شراء الشركات التي تملك العقارات، لأن هذه الخطوة هي التي تتيح الحجز على ممتلكات سلامة وأمواله في أوروبا باعتبارها أموالاً «سُرقت من مصرف لبنان».
التفاصيل الكاملة لملف شركة «فوري»
تشمل الوثائق الموجودة لدى النائب العام القاضي غسان عويدات الأسباب التي دفعت إلى الاشتباه في حاكم مصرف لبنان وشقيقه بجرم الإثراء غير المشروع، وأهمّها الملف المتعلق بشركة «فوري» إذ يتهم القضاء الحاكم بأنه عمد إلى «توقيع نسختين» من العقد (هو عملياً عقد واحد) مع الشركة المذكورة، وبحسب المعطيات التي اطّلعت عليها «الأخبار»، فإن إحدى النسختين موقَّعة في 6 نيسان 2001 مع شخص مجهول وتم إيداعها في محفوظات مصرف لبنان، والنسخة الثانية أودعها رجا سلامة لدى فرع مصرف HSBC في سويسرا حيث يوجد حساب لـ«فوري». وبقي العقد ساري المفعول حتى ربيع 2015. وقد استمع القضاء إلى إفادات عدد من المسؤولين في المجلس المركزي لمصرف لبنان (بينهم المدير العام السابق لوزارة المالية الان بيفاني)، فنفوا جميعاً علمهم بأن يكون العقد قد عُرض للبحث أمام المجلس المركزي أو أنهم اطلعوا على تفاصيله. علماً أن العقد أتاح لشركة «فوري» الحصول على نسبة (عمولة) قدرها 0.375% عن العمليات المالية التي تجريها، والتي تشتمل على كل الودائع بالليرة اللبنانية (لأجل محدّد) الموجودة لدى مصرف لبنان، وكذلك بالدولار الأميركي، إضافة إلى شهادات الإيداع بالليرة أو الدولار وعمليات التبديل (سواب) دولار مقابل ليرة، كذلك على عمليات بيع سندات الخزينة وسندات اليوروبوند.
عنصر القلق الذي أثار القضاء ودفعه إلى مزيد من التدقيق، يعود إلى أن المجلس المركزي هو الجهة التي تقوم بفرض العمولة، ولكنه لا يحدد هوية المستفيد من هذه العمليات. وبحسب الإفادات نفسها للمسؤولين في المجلس المركزي، فإن العمولة تعود إلى مصرف لبنان نفسه ولا تعود إلى أشخاص أو شركات أخرى، وخصوصاً شركة «فوري». وورد في إفادات بعض من استجوبهم القضاء أن هؤلاء لم يسمعوا أصلاً بالشركة، مع الإشارة إلى أن التحقيقات التي توسّعت لتشمل موظفين من فئات أخرى في مصرف لبنان، أظهرت أن العمولات المستوفاة من زبائن «المركزي» كان مصيرها بيد مدير العمليات الخارجية في المصرف نعمان ندور الذي يعمد إلى تسجيلها في حساب مفتوح لدى المصرف المركزي (رقمه : 01.260.632.009)، ويبدو أن ندور نفسه أقرّ بأن حاكم مصرف لبنان كان يطلب منه تحويل الأموال المستوفاة إلى حساب «فوري» في مصرف HSBC في سويسرا. وأفاد مصدر واسع الاطّلاع «الأخبار» بأن ندور كان يقوم بإبلاغ سلامة بـ«إنجاز عملية التحويل عبر كتاب ثم يعمد سلامة، وبخط اليد، إلى إضافة عبارة (من خارج أموال مصرف لبنان) قبل أن يوقع عليها». وأكد المصدر أن سلامة نفسه أقرّ في جلسات التحقيق معه بأن أي موظف في مصرف لبنان لم يكن يعلم بطلبات شركات «فوري»، وأنه يتولى شخصياً إدارة التحويل إلى حساب الشركة في سويسرا. وما أثار مزيداً من الشكوك لدى جهات التحقيق أنه تبين لها أنه «لا يوجد في مصرف لبنان أي إيصال عمل أو فواتير صادرة عن شركة فوري بما يدل على حقوقها»، فكيف ذلك خصوصاً أن مصرف لبنان لم يتعامل مع أي شركة أخرى غيرها، علماً أن العقد معها لا يمنحها الحق الحصري.
التحقيقات – وفق المصدر الواسع الاطّلاع – استوجبت العمل مباشرة على ملفات الشركة نفسها، وهو ما استدعى دهم مقرها في بيروت، وجاءت المفاجآت وفق الآتي:
– تم إشغال المكتب المذكور لغاية عام 2016 من قبل رجا سلامة.
– أفاد المقيمون في جوار المكتب بأن رجا كان يزوره بصورة متقطّعة ولم يكن هناك أي عامل إداري أو موظف خدمات فيه، حتى إنه لا يوجد خط هاتف ثابت فيه.
– لا وجود لأي ورقة تدل على وجود عمل باسم شركة «فوري»، علماً أن سلامة حاول تبرير الأمر بالقول إن انفجار مرفأ بيروت في 4 آب أتى على كل المحتويات، وهو ما يخالفه وجود وثائق أخرى في المكتب تتعلق بالممتلكات العقارية لرجا سلامة وأفراد عائلته في لبنان وأوروبا وأميركا، إضافة إلى أوراق تخصّ شركة «سوليدير».
– تسلّم فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي جميع الحواسيب والهواتف الخلوية التي تم العثور عليها في مكتب رجا سلامة. لكنّ الفرع لم يقدم تقريراً بنتائج فحص موجودات هذه الأجهزة إلى النيابة العامة.
– تأكيد رجا سلامة أن مهامّه في الشركة كانت لوجستية فقط، وأن من كان يقوم بالتوسّط مع الذين يشترون الأوراق المالية من مصرف لبنان، شخص آخر توفي، وليس لديه معلومات عنه تقود إليه بصورة واضحة.
لم تنته قصة «فوري» هنا. عاد رياض سلامة إلى التعمية على ملفاتها، إذ تبين أنه بعد تعيين إدارة جديدة لشركة تدقيق الحسابات في مصرف لبنان (Ernest & Young)، جرى البحث في الحسابات الخاصة بشركة «فوري»، وطُلب من سلامة الإفراج عن وثائق متعلقة بالحساب الذي يُستخدم لإيداع الأموال الخاصة بالشركة قبل تحويل الأموال إلى سويسرا. لكنه تذرّع مرة جديدة بالسرية المصرفية رافضاً عملية التدقيق.
قبل ذلك بسنوات، كان المصرف البريطاني في سويسرا (HSBC) قد رفض إنجاز عمليات مالية خاصة بشركة «فوري» بمبالغ تقلّ عن عشرة ملايين دولار أميركي، ما أثار غضب حاكم مصرف لبنان الذي عاد وطلب تنفيذ أمر عمليات بنقل المبلغ المذكور إلى أحد المحامين العاملين معه (م. ت). الأخير رفض بدوره التحدّث عن الحساب وسبب وصول الأموال إليه، بحجة «السرية المهنية» كمحامٍ، لكنه أكد وصول المبلغ إلى حسابه مكتفياً بالقول إنه بدل عن خدمات قدّمها للمصرف المركزي. لكنّ المفاجأة أن الحاكم نفسه، لدى سؤاله عن الملف، قال إن المبلغ ليس للمحامي بل ليعيد تحويله من حسابه إلى حساب شركة «فوري».