بالصور | المحاضرة الثالثة في تفسيرسورة القدر في منزل الحاج علي ركين
سلسلة المحاضرات الرمضانية مع سماحة العلامة الشيخ حسين بيضون في تفسير ما تيسّر من كتاب الله عز وجل.
تفسير من سورة القدر
اقيمت مساء يوم الاربعاء الواقع في 22_5_2019 في منزل رئيس بلدية الشهابية الحاج علي ركين.
المحاضرة الثالثة: استكمال تفسير الآية الأولى من سورة القدر: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
بعد الحديث في الجلستين السابقتين عن (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) وصل بنا الكلام للحديث عن (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
في رواية عن أبي حمزة الثمالي يقول: “سألت الإمام الصادق ‘ع’: ما هي الليلة التي يرجى فيها ما يرجى؟ (المقصود ليلة القدر)، فأجابه “ع”: “ليلة ٢١ وليلة ٢٣”، فقال أبو بصير الذي كان في محضر الإمام “ع”: وإذا كنا لا نقوى على ذلك، ماذا نفعل؟ فأجابه “ع”: “ما أيسر أن تطلب ليلة القدر في ليلتين”.
فقال أبو بصير: وإن كان هناك تعدد في ثبوت الهلال؟ فأجابه “ع”: “ما أيسر أن تطلب ليلة القدر في أربعة ليالٍ” (بمعنى أن الأمام “ع” يحثّ شيعته على الإحياء في جميع الأحوال)،
فسأله أبو بصير سؤالاً ثالثاً وقال: “ليلة ٢٣ المعروفة بليلة الجهني ماذا نفعل فيها؟” (تجدر الإشارة إلى أن ليلة الجهني هي نسبة لأن رسول الله “ص” بعد أن سأله عبد الله بن أنيس الأنصاري من قبيلة جهينة عن ليلة واحدة يحييها لأسباب وظروف قاسية من تعب وعناء، فأجابه “ص” بأن يحيي ليلة ٢٣ ولذلك جرى تسميتها بليلة الجهني)،
وبالعودة لجواب الإمام “ع” لأبي بصير، فالإمام أشار له بأن ليلة ٢٣ في جواب رسول الله “ص” للجهني هي نتيجة الظروف التي كانت عند الأخير. ولذلك بات من الواضح أن الإمام “ع” ترك الأمور مفتوحة ولم يعطِ زمن ليلة واحدة مخصّصة بليلة القدر.
ثم سأله أبو بصير: جعلت فداك يا بن رسول الله، أحد أصحابك “سليمان بن خالد” يقول أنه في ليلة ١٩ يُكتب وفد الحجاج إلى بيت الله أي أن هناك تقدير وقضاء يُكتب، فأجابه “ع”: “احييها في ليلة ٢١ وفي ليلة ٢٣ وإن استطعت فاغتسل وإن استطعت صلِّ في كل ليلة من الليلتين ١٠٠ ركعة”،
فقال أبو بصير ومن لم يستطع الصلاة من قيام؟ فقال الإمام “ع” -ما مضمونه-: “فليصلِّ من جلوس، وإن لم يستطع فليصليها مستلقياً”.
بالعودة إلى الآية المباركة (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، فكلمة الْقَدْرِ لغةً هي “مصدر” والمصدر هو العملية والأفعال التي تدل على الحدث، والمفسرين ذهبوا إلى عدة تفاسير وشروحات:
البعض قال بأن المقصود بالْقَدْرِ هو الشرف والشأن (مثلا ذو قدر أي ذو شأن ومنزلة) وبمعنى أن ليلة القدر تعني ليلة الشرف والشأن، والمقصود بليلة الشرف أي أن الأفعال التي نقوم بها في ليلة القدر من تسبيح وصلاة و…
تصبح ذات شرف وقيمة وشأن في ليلة القدر وهذا لا يعني أنه في غير ليلة القدر أن الأعمال ليست ذات شرف وقيمة بل شرفها في ليلة القدر لا يوجد مثله شرف. والبعض قال أن الفاعل للأعمال في ليلة القدر يصبح ذو شأن عند الله تعالى أي أنه يزداد شرفا عند الله بلحاظ إحيائه لليلة القدر،
وبالخلاصة أنه ممكن للأعمال أن تزداد شرفا وتأخذ شرفا ليس كمثله شرف وممكن للعامل والذي هو ذاك الشخص الذي يحيي ليلة القدر وممكن أيضا للإثنين معا (الأعمال والعامل).
بعض المفسرين قالوا أن المراد بكلمة “الْقَدْرِ” هو التقدير من حيث أن الله قدّر نزول القرآن الكريم في هذه الليلة، والله عنده التقدير والقضاء والحكم والتعيين ولذلك سميت بليلة القدر.
البعض قال أن المراد بكلمة “الْقَدْرِ” في الآية هو “الضيق” أي أن الأرض تضيق بالذين يحيون ليلة القدر من إنس وجن وملائكة. والضيق هنا على غرار ما ورد في الآية (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه…) أي ظن أن لن نضيق عليه،
وبالطبع كذلك لناحية أنه هل يُحتمل أن يظن النبي يونس “ع” بأن الله غير قادر عليه؟! وأيضا كما في قوله (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ…) والمقصود هنا من ضُيِّقَ عليه رزقه. ولذلك ذهب بعض المفسرين لتفسير ليلة القدر بليلة الضيق من حيث كثرة المحيين لها من إنس وجن وملائكة بين ساجد وراكع وتالٍ للقرآن و…
البعض قال بأنها سميت ليلة القدر لأنها أنزل فيها قرآن ذو قدر نزل به ملاك ذو قدر على نبي وعباد ذوو قدر.
كل ما ذكرناه هو من باب المعاني والحكم، إلا أن المقصود هو غير تلك المعاني وإن كانت كلها عظيمة، أما ليلة القدر هي التي يقدّر الله تعالى كل شيء فيها من أعمار وأرزاق ومنايا وبلايا و… وكل شيء. والبحث هو في ماهية التقدير؟
عن إسحاق بن عمار “رض” يقول: سألت الإمام الصادق “ع” عن ليلة القدر فأجابني “ع”: “أطلبها في ثلاث ليال، في ليلة ١٩، في ليلة ٢١ وفي ليلة ٢٣. ثم قال له “ع”: “في ليلة ١٩ يلتقي الجمعان، وليلة ٢١ ليلة الإبرام وليلة ٢٣ ليلة الإمضاء” (أي أن الله يمضي ما أراد).
في رواية أخرى عن الإمام الصادق “ع” فيقول: “التقدير في ليلة ١٩ والإبرام في ليلة ٢١ والإمضاء في ليلة ٢٣”. (سابقا ذكرنا أنه ركز “ع” مع أبي بصير على أنها في ليلة ٢١ وليلة ٢٣ ومع الجهني ركز الرسول “ص” على ليلة ٢٣) وإذا أردنا بحث هذا الموضوع فهناك ١١ رأياً في تعيين ليلة القدر (في أول شهر رمضان، في ليلة ١٧، في ليلة… في آخر ليلة) ولكل رأي خصوصية ولن ندخل في هذا البحث الآن.
في العديد من الروايات، ذُكر أن ليلة القدر هي في العشر الأواخر، وهذا يتحّد معه ليلة الجهني أي ليلة ٢٣ ويتحد أيضا مع روايات الصادق “ع” أنها في ليلة ٢١ أو ليلة ٢٣، وما عليه العلماء أنه إذا كان الإنسان لا يقوى ولا يستطيع أن يحيي أكثر من ليلة فليحيِ ليلة ٢٣ لكن النصيحة بحسب الروايات المأثورة أشارت إلى إحياء ليلة ١٩ وليلة ٢١ وليلة ٢٣.
▪ليلة ١٩ هي ليلة التقدير ومعنى التقدير هو الحكم والتعيين والتقدير اذا ارتبط بعلم الله تعالى فهو منذ الأزل لأن علم الله هو عين ذاته وتقدير الله غير مخلوق ولم يكن ثم كان بل هو مرتبط بذات الله وهو منذ الأزل ولا يتغير أما التغيّر يكون في “المقدّر” الذي يرتبط بشيء (قد يفعل الانسان شيء ما ويزيد الله في عمره أو يغيّر في حالة كانت ستصيبه) ولذلك التقدير هو منذ الأزل ويظهره الله أنّى شاء.
▪ليلة ٢١ هي ليلة الإبرام والإبرام هو إحكام الأمور والإحكام هو الذي تتعلق فيه المشيئة (يمحو الله ما يشاء ويثبت) وفي هذه الليلة تُسجل الأمور وتتثبّت وتتعيّن ولكن ما تزال مرهونة تحت لوح المحو والإثبات.
▪في ليلة ٢٣ يجعل الله سبحانه المبرم محتوماً (المحتوم قادر الله تعالى على تغييره ولا يغيّره لحكمة منه عز وجل، مثلاً إن خروج الإمام الحجة “عج” هو أمر محتوم ولكن الله لمّا يخرجه لحكمة ما) وفي هذه الليلة وبعد إحيائها بالعبادات والطاعة يمضي الله ما يشاء (بعد الإمضاء الأمور تستمر وتصبح من المحتومات أي من الأمور المؤكدة).
على الإنسان أن يرجع إلى ما عيّنته الروايات فيما خصّ تعيين ليلة القدر، والقلب يميل إلى ليلة ٢١ وليلة ٢٣ وبالأكثر إلى ليلة ٢٣، والسؤال هنا لماذا لم يجب الإمام “ع” عن وقت ليلة القدر بشكل محدد ودقيق،
ولماذا الرسول “ص” يقول “أطلبها في العشر الأواخر”، فلماذا أخفاها الإمام “ع” وهو بالطبع يعرف؟ ولماذا لم يعينّها الله عز وجل؟ وكذلك الرسول “ص”؟ وللإجابة نقول الآتي:
▪الله عز وجل أخفى العديد من المسائل ولم يبيّنها بشكل محدّد من حيث الزمان والماهية و.. (مثلاً، هناك طاعة واحدة ترضي الله بين كل الطاعات ومعصية تغضب الله بين كل المعاصي وهناك أولياء لله في خلقه وهناك وهناك…) فلماذا لم يظهرهم الله تعالى لنا؟
فمن الواضح أنه لحث الإنسان على العمل بكل الطاعات من حيث إخفائه للطاعة التي ترضيه ولحث الإنسان على تجنب كل المعاصي من حيث المعصية التي تغضبه ومن حيث عدم تحقير أحد لناحية إخفاء وليه في خلقه،
وللمحافظة على كل الصلوات من حيث إخفائه لتعيين الصلاة الوسطى مع الإشارة أيضاً إلى أنه عز وجل أخفى العديد العديد من المسائل… ومن هنا فإن إخفاء ليلة القدر هي للعمل في أكثر من ليلة من حيث الطاعات والإرتباط بالله عز وجل ونيل رضاه سبحانه وتعالى.
الكلام يطول كثيرا في تفسير “ليلة القدر”، إلا أننا نكتفي بذلك ونكون قد انتهينا من تفسير الآية الأولى من سورة القدر على أن نستكمل في تفسير بقية الآيات لاحقاً.