شهداء البرج: تفاصيل صغيرة من يوميات لن تُنسى
لم تنم برج البراجنة لتصحو أمس. أقفلت ليلها على أقدام أهلها والمناطق المحيطة، يركضون من مستشفى إلى آخر، من شقة مشرفة على مكان الانفجار إلى جارتها، يبحثون عن أحبة فقدوهم. بعضهم اطمأن إلى وجود أقاربهم على أسرّة المستشفيات بجروح غير خطيرة، بعض آخر ما زال يصلي لنجاة جرحاه من إصابات بالغة، وكثر لم يناموا، لم يصدقوا أن ليلهم أقفل على رحيل أحبة كانوا هنا.. لن يكونوا بعد اليوم.
لهؤلاء الأحبة حياة. ليسوا أرقاماً في سجلات ما يحصده الإرهاب من ويلات هنا وهناك. لهم حيواتهم وأحلامهم، تفاصيلهم اليومية، مناكفاتهم، سير عامرة بالإنجازات والتعب والإخفاق والفرح والدموع. لديهم عائلات تعبت في تربيتهم وانتظرت لتفرح بهم، لتستند إليهم، وتستكين لوجودهم. لديهم أطفال ينتظرون عودتهم من أشغالهم، زوجات يعتمدون عليهن ويساعدنهم في بناء الأحلام لما يأتي من أيام.
لهؤلاء الشهداء الذين سقطوا في انفجار أول من أمس، انعقد يوم برج البراجنة والضاحية أمس ومعها مخيما برج البراجنة وشاتيلا وقرى في البقاع والجنوب، لبنانيون وفلسطينيون وسوريون اختاروا العيش هناك حيث اختار الانتحاريون أن يفجروا حقدهم بهم. الضاحية التي استقبلتهم بعدما لفظهم الفقر والحرمان وقلة فرص العمل من قراهم النائية، ودّعتهم بما يليق بهم أمس، بما يفي سنواتهم الطويلة التي قضوها مناضلين وراء لقمة عيش صعبة المنال وحياة كريمة. عبروا الطرق والزواريب تحت الأرز والورود التي أبت نسوة الضاحية إلا أن يرشننها على نعوشهم وسيارات الإسعاف التي حملت جثامينهم.
وهناك، في الأزقة أقيمت الأحزان جماعياً وفرادى. جيران ورفاق درب حتى في الرحيل شاء ذووهم أن يشيعوهم معاً. جمعتهم الحياة فلن يفرّقهم الموت. وهناك يتبين أن بعض الرفاق والأصدقاء استشهدوا معا وهم في طريقهم إلى السوق أو الصلاة أو لتناول فنجان قهوة. وفي البرج حُملت الجثامين على الأكف، أرادت العائلات لأبنائها أن يعبروا لمرة أخيرة في جنبات البلدة – المنطقة التي ترعرعوا فيها قبل أن يعودوا نهائياً إلى قراهم. ومن المدخل الرئيسي قرب مستشفى الرسول الأعظم، غادر كثر برج البراجنة أمس عائدين إلى التراب الأول والأخير.
لهم تفاصيل، وحياة وقصص قصيرة أو طويلة نروي بعضها هنا تباعاً لنقول لهم وداعاً بأقل ما يليق بالشهداء من وداع…
جنى حسن عبدالله
قالت زميلتها على مقعد الدراسة إنها قصدت السوق لشراء ثوب جديد. هي ابنة المربي حسن عبدالله في مدرسة البتول، ابنة الثلاثة عشر ربيعاً المدللة التي كان ينتظر أبوها جرس انتهاء الدوام الرسمي ليلاقيها عند باب صفها، يحمل كتبها وحقيبتها لكي لا يتعب ثقلهما ظهرها الطري. أطلق عليها أساتذتها وزملاؤها لقب «جرح البتول»، جنى الوحيدة لعائلتها مع شقيق يصغرها سناً. جنى المجتهدة التي كانت تريد أن تنهي دراستها لتعود «أستاذة» في المدرسة عينها، تركت حقيبتها وغصة غيابها لأمها التي كانت برفقتها، وخصوصاً ضحكتها الجميلة على مقعدها المدرسي، وأقفلت عائدة إلى تراب دير عميص.
سامر حوحو
لم تكن أم سامر (24 عاماً) تنتظر ما جاءها أمس من أخبار. كانت تمعن النظر في وجوه صبايا يعبرن بها في شوارع البرج، تنتقي بينها وبين نفسها عروساً لسامر الذي ربّته يتيماً مع أخ وأخت تركهم والدهم أمانة في عنقها ورحل. وحملت أم سامر الأمانة. لم تترك عملاً إلا وقامت به: مؤونة بلدية تبيعها لسيدات بيروت المنشغلات عن الضيع، طوّرت مهاراتها كخياطة وصارت تخيط، حتى أنها كانت تنتقي ثياباً مستعملة تغسلها وتكويها ثم تعيد بيعها لنساء ليس لديهن الوقت للذهاب إلى «بالات» الألبسة الأوروبية. وعاشت أم سامر على الوعد. وعد «وشوشها» إياه سامر في جلساتهم الودودة على شرفة منزلهم الصغير في أحد زواريب البرج «وعدي لك أن ترتاحي عندما يتيسر أمري». تعلم مهنة تصليح الدراجات النارية وقال لها سيفتح كاراجاً خاصاً به وسيجعلها تتوقف عن العمل. مضت سنواته العشرون على طريق الوعد ونخوته وشهامته التي قتلته أمس. قتله الانفجار الثاني عندما سمع الأول فركب على دراجته النارية وقصد مساعدة المصابين حين دوّى الثاني واستشهد.
حسين الشناوي
كان ابن مخيم برج البراجنة الفلسطيني يقصد مسجد الإمام الحسين مساء كل خميس. بالإضافة إلى أنها عشية يوم الجمعة، كان حسين يرغب بالاستماع إلى دعاء كميل الذي يتلى في الجامع بعد صلاة العشاء.
هناك، عند المنعطف نحو المسجد تركته والدته لتقصد تعاونية رمال وتشتري مكوّنات طبق الحلوى الذي كان قد طلبه منها «ترماسو». وبعد ربع ساعة دوّى الانفجار الأول، تلاه الثاني ومعهما طار قلب الأم وشعورها بحصول مكروه. وإلى مكان الانفجار صارت تركض إلى حيث لا جواب. بقيت أم حسين من مستشفى إلى آخر إلى أن جاء صديقه وأخذها إلى مستشفى الرسول الأعظم حيث غابت عن الوعي في اللحظة التي تعرفت إليه في براد المستشفى. كان حسين سيغادر إلى تركيا ومنها سيحمله إخوته إلى ألمانيا حيث يعيشون ليطوي حياته المريرة في لبنان ومعها معظم الحقوق المهضومة والممنوعة عن الفلسطينيين. طوى حسين 27 عاماً على حلم المغادرة إلى ألمانيا لبناء حياة أفضل.. حياة أنهاها هناك مع رفاق درب قضى معهم على أبواب المسجد، ودفنوا معاً في مقبرة البرج.
علي عباس
لكل الشهداء حكايات ولكن لعلي عباس، وتحديداً والديه، مرارة مختلفة. لم يعد هناك من يفتح الباب عليهما. هكذا بكبسة زر لانتحاري حاقد، أقفل منزل أم علي وأبيه. المنزل نفسه الذي سكنوه مؤخراً استعداداً لتزويج علي الوحيد، لا من شقيق ولا أخت. قالا له «نريدك أن تسكن معنا ونفرح بك وبصغار يملأون البيت». كانت عروس علي تنتظر انتهاء شهر محرم لتفرح به. أمس لم تكن أم علي تدرك ما يدور من حولها. تلتفت المرأة الخمسينية يمنة وشمالاً وتسأل كمن يغيب عن الوعي «رجع علي أو بعد؟». ساعة تسأل أشقاءها واخرى زوجها الذي تستغرب دموعه وحزنه الشديدين. استشهد علي كما معظم شباب المنطقة بعدما هرع لمساعدة المصابين إثر الانفجار الأول. قال له صديقه ربما يقع انفجار ثان.. ولكن علي لم يأبه، نجا صديقه واستشهد هو.
ليلى المظلوم
لم ير أبناؤها في أميركا ضحكتها إلا في اللحظة التي ذهبت بها إلى دائرة الهجرة هناك لتسجل بصمة يديها. هناك ضحكت ليلى الأربعينية، وقالت لابنيها هناك «غداً تحجزون لي لأعود إلى بيروت». وعادت ليلى إلى منزلها في البرج يوم الأربعاء الماضي لتغمض عينيها إلى الأبد في البلاد التي أحبتها.
اليوم تجلس جنات، ابنة الثلاثة عشر عاماً على سريرها في مستشفى الرسول الأعظم وتسأل عن ليلى، والدتها. أصيبت جنات في الانفجار ولكنها لا تعلم حتى الآن باستشهاد أمها. كانت تمسك بيدها في السوق في طريقها لزيارة طبيبها عندما دوى الانفجار. في تلك اللحظة استشهدت ليلى فيما لم تصح جنات إلا في المستشفى. تقول لخالتها عبير التي تجالسها وتضحك وتقول لها ان أمها بخير في مشفى آخر، تقول لها «حصلت أمي على بطاقة إقامة في أميركا لتأخذنا من هنا، سنشفى ونرحل معاً». رحلت ليلى وحيدة إلى البقاع أمس بانتظار وصول ولديها من أميركا لمواراتها في الثرى.
عادل ترمس
قد لا يخلو زاروب في البرج من صورة له مذيلة بـ «البطل الفادي». لم يفكر عادل ترمس بابنته وابنه الصغيرين حين لاحظ وجود الانتحاري أمام باب مسجد الإمام الحسين. لم يفكر بروحه ويهرع مسرعاً محاولاً النجاة بنفسه. قفز ابن الثلاثين عاماً على المجرم، أمسك به ومنعه من دخول المسجد ليفتدي أرواح العشرات من الأطفال والشبان والرجال الذين كانوا يؤدون صلاة المغرب والعشاء. من استشهد من رجال المسجد هم من خرجوا يتفقدون الناس بعد الانفجار الأول. منع عادل عنهم الموت في الأول ولكنه كان شهيدا لم يفتدهم في الثاني.
هناك في منزله في الرمل العالي، تسأل صغيرته عن سر الزحمة في البيت الصغير، وهناك تمسك بها قريبة وتفهمها أنه وداع يليق ببطل ستكبر لترفع رأسها به وبما فعله.
فادي كحيل
ترك فادي كحيل منزل ذويه في برج البراجنة وسكن في منطقة الشويفات حيث تزوج وأنجب بنتاً لم تتجاوز السادسة من عمرها وصبياً ما زال في الثالثة. أمس الأول، قصد فادي البرج لزيارة والدته الخاضعة لعملية قلب مفتوح. وفي اللحظة التي ركن فيها سيارة «الرابيد» أمام باب منزلها في رأس شارع عين السكة دوى الانفجار الأول. وقبل أن يقول لولدته مساء الخير، هرع فادي نحو المكان منادياً على شقيقه الذي يسكن بالقرب من أهله «عم يقولوا في كتير إصابات» ولم ينتظره. هناك، ولدى وصوله دوّى الانفجار الثاني واستشهد فادي. أمس في البرج، وهي تحضن ابنه، كانت والدته، والدة فادي تعتب عليه «ولو يا ماما بس كنت فرجيني وجك الحلو»… لتعود للوم نفسها «قال جايي يشق عليي.. يا أمي استشهدت بسببي».
حمود وصقر في موقع التفجير
تفقد المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود، ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر ساحة الانفجار.
وأوضح حمود أن «العملية كانت مزدوجة، وهما تفجيران، ولم يثبت إلى الآن أن الانتحاريين كانوا ثلاثة والموضوع قيد المتابعة». وأضاف «المتفجرة الأولى كانت على دراجة نارية وزنتها 7 كلغ والثانية كانت حزاما ناسفا على الخصر زنتها 2 كلغ ونحن في طور دراسة وتحديد نوعها».
بدوره، أشار صقر الى انه «نتابع المعطيات للتأكد مما إذا كان هناك انتحاري ثالث، وما يظهر حتى الآن أنهما اثنان». وأضاف «يبدو ان هناك رابطاً بين الانتحاري الذي ألقي القبض عليه في طرابلس والانتحاريين اللذين فجرا نفسيهما هنا».
من جهة ثانية، أكد مصدر رسمي لـ «السفير» انه تبين وجود أشلاء تخص ثلاثة اشخاص في مسرح الجريمة في برج البراجنة، لم يتم التعرف على هويتهم حتى الآن.