محكمة التمييز: السنيورة يخسر والصحافة تربح
«للمرة الأولى سيدفع السنيورة من ماله الخاص لا من مال الناس»، هكذا عبرت الزميلة رشا أبو زكي بعد تبلّغها الحكم النهائي لمحكمة التمييز الناظرة في قضايا المطبوعات في القضية التي رفعها وزير المال السابق فؤاد السنيورة عليها وعلى «الاخبار». فقد إنتصر كاشفو الفساد على السياسيين، وجرى تكريس، بموجب حكم قضائي، واجب اساسي للصحافيين يقضي بفضح الفساد في الإدارات العامة في قضية متعلقة بالمال العام استغرقت 5 سنوات ظهرت فيها أحكام قضائية «غريبة» تتمثل في مدح المهنية وإدانتها في آن واحد!
بعد خمس سنوات أمام محكمة المطبوعات بمختلف درجاتها خسر رئيس الحكومة السابق (ووزير المال السابق) فؤاد السنيورة وربحت جريدة «الأخبار» والزميلة رشا أبو زكي. «شعور الفوز على السنيورة جميل، والأجمل خسارة السنيورة أمام الإعلام»، هكذا تعبّر أبو زكي عن فرحتها، فلا تعويض لها أفضل «من دفع السنيورة للمرة الأولى من ماله الخاص لا من مال الناس.
سيتكبّد الرجل مصاريف ونفقات 5 سنوات من المحاكمات».
ربح السنيورة في محكمة البداية حكماً قضائياً «غريباً» عام 2014 اعترف فيه القاضي روكس رزق بـ «اتزان» الكاتبة و«عرضها الموضوعي» لما ورد في تقريرها لكنه في الوقت نفسه أدانها بتهمة القدح والذم والتحقير ما مثّل صدمة قانونية. استأنفت «الاخبار» الحكم «الغريب» فربحه السنيورة مجدداً، ليخسره بشكل مدوٍّ أمام محكمة التمييز التي لم تكتفِ فقط باعتبار ما كتبته أبو زكي خارج دائرة القدح والذم والمس بكرامة السنيورة، إنما اعتبرت أنّ من واجب الصحافيين فضح الفساد في اعتراف ضمني منها بصحة التقرير الذي نشرته «الأخبار» تحت عنوان «فصول من اللغز المالي. قرارات قضائية تثبت مخالفات السنيورة… والتلاعب بالأرقام واقع» بتاريخ 27/1/2011. آنذاك رأى السنيورة أن ما ورد في التقرير هو تحقير له فرفع دعوى ضد «الاخبار» وكاتبة التقرير امام محكمة المطبوعات التي، وبالرغم من استناد أبو زكي إلى تقارير قضائية صادرة عن ديوان المحاسبة في موضوعها، رأت ان لا علاقة لها للنظر في اساس القضية إنما في تعابير القدح والذم والتحقير. أدانت محكمة المطبوعات أبو زكي و»الأخبار» بتهمة التحقير في جلسة 20/1/2014 وغرّمتهما 8 ملايين ليرة، ليتم استئناف الحكم فطالب السنيورة بـ 100 مليون ليرة تعويضاً له لتصل القضية أخيراً الى محكمة التمييز.
هذا القرار صدر منذ اسبوع عن الغرفة التاسعة في محكمة التمييز الناظرة استثنائيا في قضايا المطبوعات برئاسة القاضي جان عيد وعضوية القاضيين ليليا سعد وجان مارك عويس. وهو يعدّ إنجازا قضائيا لجميع الصحافيين والصحافيات إذ كرّس الحق في النقد وفضح الفساد باعتباره واجبا على عكس ما سارت عليه الأمور في محكمتي البداية والإستئناف. فقد ورد حرفياً في القرار أنّه «بما أنّ محكمة الإستئناف اعتبرت أن من حق الصحافة تنوير الرأي العام وتوعيته، والصحيح أن من واجبها القيام بذلك والإشارة الى كل خلل يقيد الإدارات العامة والمرفق العام ويعيق حسن العمل والأداء فيها». ويتابع أن «الخلل المشار اليه في المقال يتجسد في عدم وجود قانون موازنة عامة ينظم الحياة العامة وذلك منذ زمن طويل لم يكن خلاله دولة الرئيس السنيورة رئيساً للوزارة أو وزيراً للمالية لا هو ولا أحد من التيار السياسي الذي ينتمي اليه فلا يكون النقد الوارد في المقال موجها اليه شخصيا بل الى مركز وزير المال إذ لا بد في الأنظمة الديمقراطية أن يكون هناك مسؤول في سدة الحكم عن أعمال الوزارة».
التعابير القاسية تدخل في سياق النقد لا القدح والذم
يتوسع القرار في تعريف «الإساءة» لشخص ما معتبراً أنّ التعابير القاسية تدخل في سياق النقد وليس القدح والذم، إذ يؤكد أنّ «المقال موضوع النزاع يستوجب التحقق في توافر جرم القدح والذم والتحقير في شخصه بالمفهوم المحدد أعلاه. وبما أن المقال موضوع الدعوى وفي سياق معناه العام قد تضمن انتقاداً للرئيس السنيورة باستعمال عبارات قاسية تشكل نقداً لاذعاً، إلا أن العبارات المستعملة من أبو زكي، سواء أخذت بمعناها اللغوي الخاص أو بمعناها العام في موقعها من المقال الصحافي، فإنها لا تنطوي على أي تحقير لشخص السيد السنيورة أو أي مساس بشرفه أو كرامته، فلا تعتبر بالتالي من قبيل القدح والذم». ليضيف لاحقاً أنّ «أبو زكي مارست حق النقد تعبيراً عن رأيها الحر في السياسة المالية المتبعة (…) مستخدمة تعابير مقبولة في اداب اللغة والتخاطب ولم يتبين فيها وجود أي ألفاظ شائنة بذاتها او مسيئة (..) والعبارات المستخدمة جاءت في حدود ممارسة حق النقد وحرية التعبير وإبداء الرأي».
الحكم الاول الصادر في القضية عن محكمة البداية برئاسة القاضي روكس رزق اعتبر أيضاً أن عبارات أبو زكي كانت متزّنة لكنه دانها بتهمة «التحقير» مع الاخذ بالاسباب التخفيفية! فقد أورد القرار السابق أنه «في ضوء المصطلحات المستعملة، التي لم تبلغ حد الإزدراء و/أو السباب بالمدعي، والتي عكست إتزاناً في اختيار هذه المصطلحات. وسعي المدعى عليها لعرض موضوعي، لواقع الحال، من زاويتها، كخبيرة اقتصادية، ذات توجه محدد، من دون ان تبلغ حد اصدار الاحكام، تمنح المحكمة المدّعى عليها الأسباب المخففة».
الحكم الصادر عن محكمة التمييز يتخطى مسألة العبارات المستخدمة في المقال ليكرّس حقاً عاماً وهو أن «انتقاد الأداء السياسي لفريق عمل معين كان السنيورة رمزاً من رموزه الأساسية يبقى أمراً مباحاً طالما انه لا يطول الشخص ذاته بما يسيء الى كرامته واعتباره. فمن حق الصحافي أن يوجه النقد لأداء سياسي في مراجعة لنتائجه وانعكاسه على الحياة السياسية والمالية والإجتماعية العامة دون الإساءة الى شرف من وجه اليه النقد».
بناءً على هذه المعطيات أصدر القاضي عيد قراره بفسخ حكم محكمة الإستئناف ورد دعوى السنيورة وتدريكه كافة الرسوم والمصاريف في انتصارٍ قضائي للصحافة والصحافيين قبل أن يكون انتصاراً لأبو زكي و»الأخبار» على السنيورة.
وفي تعليق على القرار أوضحت المحامية رنا صاغية وكيلة الزميلة أبو زكي و»الأخبار»، أن «أفضل ما ارساه هذا القرار هو تكريس محكمة التمييز لواجب الصحافيين بفضح الفساد والمساءلة والمناقشة خاصة في القضايا المتعلقة بالإدارات والشخصيات العامة، مع احتفاظه في الوقت نفسه بمبدأ عدم استخدام عبارات مسيئة. إلا أنه أعطى تعريفا أوسع للإساءة بحيث اعتبر العبارات القاسية غير مسيئة كما يمكن ان تكون العبارات لاذعة وموجعة من دون ان تعتبر تحقيراً». وأضافت انه «على الرغم من تكرار ورود اسم السنيورة في تقرير أبو زكي لم تعتبر المحكمة أن المسألة شخصية، إذ ميّز القرار بين الأشخاص العاديين والأشخاص الذين يتولون وظائف عامة، مؤكداً أن الإنتقاد واجب وخصوصاً إذا تناول إدارة عامة». أهمية القرار بنظر صاغية هي إمكانية الإستناد اليه في القضايا اللاحقة لأنه على الرغم من عدم الزاميته إلا انه فتح بابا أمام الصحافيين للحد من التضييق الحاصل عليهم.
إستكمال انتصار الصحافة وإنجاز القضاء يجب الا يتوقف هنا، بل المطلوب اليوم من القضاء التحرك للنظر بأساس القضايا التي تحال اليه بذريعة القدح والذم والتحقير.