قرار ضخ الدولار | ‘سيرك’ مالي وبهلوانيّات احتيالية مكلفة
لا يحتاج المراقب إلى كثير من التحليل ليفهم أنّ ما جرى طوال اليومين الماضيين، في عمليّات “ضخ الدولار” التي أطلقها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لم يكن سوى مجموعة من البهلوانيّات الماليّة المكلفة جدًّا، والخارجة عن أي رؤية نقديّة هادفة على المدى البعيد.
السيرك المالي
ببساطة، كان بإمكان أي محظي يملك 10,000$، وتربطه علاقة جيّدة مع مصرف وصرّاف، أن يذهب يوم أمس الجمعة إلى السوق السوداء، ليشتري بدولاراته ليرات ورقيّة بسعر صرف السوق البالغ 28,000 ليرة للدولار. حصيلة العمليّة ستكون 280 مليون ليرة، بالنقد الورقي، وهو ما يكفي للتوجّه إلى المصرف وشراء 11,475 دولار نقدًا بسعر المنصّة الذي بلغ يومها 24,400 دولار مقابل الليرة. ربح فوري، وبالدولار الورقي، بنسبة 14.75%، في بلد يعاني من شح العملة الصعبة، وتعثّر قطاعه المصرفي وامتناعه عن الدفع للمودعين.
هذه العمليّة هي تحديدًا ما يتيحه قرار السماح ببيع الدولار بسعر المنصّة داخل المصارف، مقابل الليرات الورقيّة، مع إبقاء جميع أشكال السقوف على السحوبات النقديّة التي يمكن استخدامها لشراء الدولار بهذا الشكل. لكن في واقع الأمر، لم يكن تحقيق هذا الربح السريع متاحًا لأي مواطن أو أي مودع. فخلال اليومين الماضيين، امتنعت الغالبيّة الساحقة من الصرّافين عن بيع الليرات الورقيّة في السوق الموازية، ما أشار بوضوح إلى حصرهم بيع الليرات الورقيّة بمجموعة من الشركاء أو المحظيين، الذين استفادوا وحدهم من هذه العمليّات الغريبة. وفي المقابل، ورغم إعلان المصارف مجموعة من العروض الهادفة إلى تمكين المواطنين من شراء الدولار على هذا النحو، كان الضغط والطلب على الدولار يحصر باب المشاركة بهذه العمليّات بحلقة ضيّقة من العملاء المقرّبين من إدارات الفروع المصرفيّة.
هي إذًا مجرّد حفلة أخرى من حفلات الجنون والمضاربات الطائشة، التي تعيد توزيع النقد في السوق لمصلحة حلقة ضيّقة من المستفيدين، بعمليّات سريعة لا يحكمها أي منطق مالي أو نقدي. المصادر المصرفيّة تشير إلى تخصيص مصرف لبنان نحو 200 مليون دولار لهذه الحفلة الماليّة، فيما تشير أرقام منصّة صيرفة إلى أن الحاكم ضخّ من خلالها نحو 41 مليون دولار خلال يوم واحد، نهار الجمعة. بمعنى آخر، مغامرة حاكم مصرف لبنان الأخيرة تحمل في طيّاتها كلفة باهظة، من النوع الذي يستدعي البحث عن الجهة التي ستتحمل كلفة هذه العمليّات، وعن جدوى هذه العمليّات مقارنة بالكلفة.
من سيدفع الثمن؟
إذًا، من سيدفع كلفة هذه المغامرة؟ وهذا السؤال مربوط بسؤال تقني مالي آخر: من أين أتى رياض سلامة بهذه الدولارات التي يتم تبديدها بهذا الشكل؟ والسؤالين معًا، يُفترَض أن يساعدا على الإجابة على السؤال الآخر: أي نتيجة سننتظرها من هذه المغامرة على المستوى النقدي؟
البحث عن مصدر الدولارات مسألة في غاية الصعوبة، في ظل الغموض الذي يحكم إدارة الشأنين النقدي والمالي في مصرف لبنان اليوم. لكن من الأكيد أن الاحتمالات محصورة بثلاثة مصادر يمكن أن يكون قد لجأ إلى أحدها رياض سلامة لتأمين هذه الدولارات، أو إلى الثلاثة معًا:
– المصدر الأوّل: الاحتياطات المتبقية في المصرف المركزي، وهو ما سيعني –في حال الاعتماد عليها لتمويل العمليّة- أن حاكم مصرف لبنان قرّر تحميل الكلفة إلى ما تبقى من دولارات موجودة داخل النظام المصرفي، وزيادة فجوة الخسائر المتراكمة في ميزانيّاته. وعلى أي حال، من المؤكّد أن خطوة كهذه لن تعني سوى مفاقمة تداعيات الأزمة الماليّة على المدى البعيد، وخصوصًا مع تضخيم حجم الخسائر التي من المفترض أن تتعامل معها المصارف لاحقًا.
– المصدر الثاني: دولارات حقوق السحب الخاصّة، التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي. وفي هذه الحالة، سيكون قد أكّد حاكم مصرف لبنان جميع الشكوك التي توجّست من إمكانيّة تصرّفه بدولارات الدولة اللبنانيّة، بعد ابتلاعها وضمّها إلى احتياطاته. مع الإشارة إلى أن الحكومة كانت قادرة على ضخ الدولارات في السوق، بهدف تحسين سعر صرف الليرة، لكن من خلال عمليّات منطقيّة وهادفة وعادلة: كتمويل برامج المساعدات الموجهة للفئات الأكثر فقرًا، أو تمويل بعض مشاريع البنى التحتيّة ومعامل الكهرباء، وغيرها.
– المصدر الثالث: الدولارات التي يشتريها مصرف لبنان السوق السوداء. وفي هذه الحالة، سيكون مصرف لبنان قد قام بعمليّة إعادة تدوير لدولارات السوق نفسها، عوضًا عن “ضخ الدولار” كما يدّعي، ما يتعارض مع الهدف الأساسي المعلن شكليًّا للعمليّة. وإعادة تدوير الدولارات بهذا الشكل ينطوي على كلفة باهظة، من خلال شراء الدولارات بالليرات المطبوعة من مصرف لبنان بسعر الصرف المرتفع في السوق السوداء، ومن ثم بيعها بسعر صرف المنصّة المنخفض. وهذه الكلفة، التي يتم تمويلها عبر خلق النقد بالعملة المحليّة، ستساهم في زيادة الضغط على سعر صرف الليرة في المستقبل، ولو ساهمت بتخفيض قيمة الدولار خلال أيّام معدودة بسبب أثر “الحرب النفسيّة” التي يقوم بها مصرف لبنان من خلال القرار. مع الإشارة إلى أن طبع النقد وضخّه بالليرة على هذا النحو يتعارض مع هدف آخر معلن لهذه العمليّة، وهو امتصاص السيولة المتاحة في السوق بالليرة اللبنانيّة.
خطوة عبثيّة
أغلب الظن، سيتم تحميل كلفة المغامرة للمصادر الثلاثة معًا، أي: احتياطات مصرف لبنان، ودولارات حقوق السحب الخاصّة، وما يتم امتصاصه من دولارات السوق الموازية. وفي الحالات الثلاث، ستقتصر مفاعيل الخطوة على بعض التحسّن في سعر الدولار على المدى القصير جدًا، أي على مدى الأيام القليلة المقبلة، قبل أن يعاود الدولار صعوده، بغياب أي سياسة نقديّة هادفة ومدروسة على المدى البعيد.
لكن أهم ما في الموضوع، هو أن السيرك المالي الذي ينظّمه حاكم مصرف لبنان اليوم سيحمل آثاراً موجعة على المدى البعيد، من خلال زيادة فجوة الخسائر في ميزانيّات مصرف لبنان، وتبديد دولارات حقوق السحب الخاصّة التي يمكن استخدامها بشكل متوازن خلال مرحلة التصحيح المالي، ناهيك عن خلق النقد بالليرة لشراء دولارات السوق السوداء ومن ثم ضخّها.
في خلاصة الأمر، حوّل الحاكم المصرف المركزي إلى ما يشبه صالة ألعاب الخفّة، التي يتفنّن فيها في التلاعب بالنقد وامتصاصه ومن ثم إعادة ضخّه، من دون أن يتضح فعلًا الهدف النهائي من كل هذه الخطوات.
المصدر : علي نور الدين – المدن