هنيئاً لسعد الحريري
انتهت حرب الإلغاء البرلمانية اللبنانية، ولم يلغ أحدٌ أحداً. وعاد أركان الطبقة السياسية اللبنانية كل إلى موقعه وحجمه السابق تقريباً، باستثناء الرئيس سعد الحريري الذي اختار الانكفاء طوعاً (وربما قسراً)، لتتوزع كتلته النيابية هنا وهناك بانتظار معرفة ما ستؤول إليه تجمعات النواب المستقلين والحريريين السابقين.
من دلالات الانتخابات أن الشعب اللبناني أبدى عدم رضاه عن الطبقة السياسية، فلم ينتخب أكثر من 42 في المئة من عدد الناخبين المسجلين، ما يعني أن أوائل الفائزين لم يحظوا في أحسن الأحوال بثقة أكثر من 25 في المئة من اللبنانيين، وبعضهم فاز بأقل من واحد في المئة. الانكفاء عن التصويت هو غالباً موقف اعتراضي رافض، والشرعية الشعبية في هذه الحال هي شرعية منقوصة، وإن كان الممتنعون أشخاصاً سلبيين في تعاطيهم مع الموضوع الانتخابي، لا سيما أن العملية أظهرت إمكان التغيير.
من أبرز نتائج الانتخابات أنها كرّست حال الانقسام السياسي (والطائفي) الحاد في البلد، ولم تفرز أكثرية يمكن أن تحكم وأقلية تعارض، فلا أكثرية واضحة لفريق الممانعة (الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر وحلفاؤهما) ولا لفريق ما كان يسمى سابقاً (قوى 14 آذار). لقد أدت المعركة إلى تغييرات هامشية أصابت الأطراف والهوامش وليس القلب. لم يخسر “حزب الله” وحركة “أمل”، ونهض جبران باسيل من تحت ركام الليلة الأولى التي أظهرته خاسراً كبيراً ليستعيد كتلته الوازنة بفضل صناديق دائرة عكار ذات الأغلبية السنية وتحالفاته المتقنة فيها، في ظل غياب “تيار المستقبل” الذي، مرة جديدة، يهدي باسيل بضعة مقاعد، ودعم “حزب الله” في بعبدا وعاليه. وسجلت “القوات اللبنانية” تقدماً بدا أقل مما كانت تأمله، فيما تمكن حزب “الكتائب” المتحالف مع مستقلين وتغييريين من رفع غلّته قليلاً. وحافظ وليد جنبلاط على تكتله بعد مخاوف جدية من إمكان إلغائه.
في هذه الخريطة، يغيب التكتل السني القوي الذي كان يمثله الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل منذ عام 2005، ومن المبكر معرفة الحجم السياسي للطائفة السنية في المعادلة الدقيقة التي أفرزتها الانتخابات، قبل انتهاء مرحلة من التجاذب التي يمكن أن تؤدي إلى تشكيل تكتل أو أكثر من نواب خط الحريرية السياسية وممن هم على طرفيها. لكن المؤكد أن هناك صقوراً من الطائفة في البرلمان الجديد يصعب على الحريرية السياسية استيعابهم وتطويعهم، كاللواء أشرف ريفي الذي يشكل حالة خاصة ضمن ما يسمى “التيار السيادي”.
لقد خاض كل الأطراف حروب إلغاء ضد بعضهم بعضاً، وهذه ليست تهمة أبداً ولا حجة. في أي انتخابات وفي أي مكان في العالم يخوض المتنافسون حروب إلغاء ضد الآخرين ويستخدمون كل أنواع الأسلحة (المسموح بها). لكن الخصوصية الطائفية والمذهبية اللبنانية تصور الصراع السياسي بأنه حرب إلغاء وجودية كيانية، فيصبح الشعار السياسي “بدهم ياكلونا” أو “يعزلونا”، هكذا صوّر جبران باسيل الحملة عليه، وكذلك فعل وليد جنبلاط وسمير جعجع و”حزب الله”…
بلغ منسوب الاستقطاب المذهبي والطائفي أشده في الأيام الأخيرة. الكلام واضح وصريح. الطائفة مهددة، الكيان مهدد، المصير مهدد، إما أن تصوّتوا لنا وإما يدعسكم الآخرون (من الطوائف الأخرى) بأرجلهم ويشردوكم خارج البلد (كأنما لم يُشرَّد اللبنانيون بعد). موجة من الكراهية والحقد تولدت، فهرع الخائفون إلى صناديق الاقتراع ينتخبون “حماة” الطوائف ومناطقها. وللتذكير، فاستخدام اسم المنطقة في لبنان يشير تلقائياً إلى الطائفة، وهو ما يلعب عليه “فقهاء” الأحزاب الطائفية فيستخدمون اسم المنطقة ليعنوا الطائفة، أو يستخدمون صيغة النحن للإشارة إلى الطائفة.
الضحية الأولى للاصطفافات والاستقطابات الطائفية كانت الحزبيين العلمانيين، القلة في المجلس النيابي، خسر الحزب السوري القومي الاجتماعي كتلته الصغيرة، ولم ينجح أحد من مرشحيه (بجناحيه) حتى في معاقله التاريخية، أولاً بسبب انقسامه وثانياً لأن حلفاءه الذين كانوا يدعمونه ببعض الأصوات التفضيلية مقابل حصولهم على أصواته الموزعة على كل الدوائر في لبنان، وفّروا أصواتهم لأبناء مللهم، بعدما استشعروا الخطر الآتي من مرشحي التغيير.
في تفاصيل الخريطة السياسية التي أفرزتها الانتخابات نقاط ضوء مشعة، لم تحدث انقلاباً، لكنها مهّدت له. نحو 15 نائباً تغييرياً يمثلون “ثورة تشرين” والمجتمع المدني سيدخلون إلى المجلس النيابي بأفكار جديدة، وبروح خارج الاصطفافات الطائفية والمذهبية، مناضلون تعرفهم الساحات، يحملون شهادات عليا وسمعة طيبة غالباً، وتجربة طويلة في التعاطي مع الشأن العام، بينهم أطباء ومحامون وأساتذة جامعيون وإعلاميون .. هؤلاء يعوّل عليهم كثيراً لكسر حدة الاستقطاب الطائفي والمذهبي، ورتابة الخطابات الخشبية لأركان منظمومة الفشل المسؤولة عن ذبح البلاد والعباد.
لكن، حتى لا يغرق الناس في التفاؤل والابتهاج، لا بد من الاعتراف بأن الطبقة السياسية الطائفية ما زالت عميقة جداً ومتجذرة بقوة، معتمدة على قاعدة “صلبة” من الأتباع الخلّص الذين يهتفون بالروح والدم، ويقدّسون الزعماء ويموتون من أجلهم حتى.
هذا الواقع ستبرز تداعياته بوضوح في الأيام المقبلة، بعدما حلّت التباشير بالارتفاع الجنوني لأسعار الدولار، ومعه أسعار المحروقات وكل السلع الضرورية والكمالية. هذه التركيبة ذاهبة إلى صدام محتوم، سيؤدي إلى حالة انسداد عظمى في تشكيل الحكومة وفي انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفي كل الاستحقاقات والقضايا الخلافية.
هذا البلد منزوع منه صمام الحرارة وصيفه سيكون لاهباً، إلا إذا غيّر السياسيون ما بأنفسهم، وهذا شبه مستحيل.
هنيئاً لسعد الحريري في استراحته، أياً كانت أسبابها.