تعديل الدولار الجمركي | ‘بازار نقدي’ ينبئ بكارثة كبيرة في لبنان
قبل نحو أسبوع فقط، خرج مستشار رئيس الحكومة نقولا نحّاس ليبشّر اللبنانيين بأن الحكومة توافقت مع النوّاب على اعتماد سعر صرف 12 ألف ليرة للدولار، لاحتساب كافّة مداخيل الدولة في موازنة العام الحالي، ومنها طبعًا الدولار الجمركي. وزير الاقتصاد في حكومة ميقاتي ردّ على طرح نحّاس باعتباره “غير واقعي ولا يوصل للحلول المطلوبة”، مطالبًا بتحديد الدولار الجمركي 18 ألف ليرة للدولار، “ثم رفعه تدريجيًّا”. وفي النهاية، راسل رئيس الحكومة وزير المال قبل ظهر اليوم الخميس، طالبًا منه اتخاذ ما يلزم من قرارات لتعديل الدولار الجمركي وتحديده عند مستوى 20 ألف ليرة للدولار. أمّا وزير الاقتصاد، فظلّ يصرّ حتّى ظهر اليوم الخميس أن ما يُحكى عن تحديد الدولار الجمركي عند مستوى 20 ألف ليرة “ليس رسميًّا بعد”، بانتظار التوافق مع حاكم مصرف لبنان على الموضوع.
مع الإشارة إلى أنّ الدولار الجمركي يمثّل اليوم سعر الصرف المعتمد لاستيفاء الرسوم الجمركيّة بالنسبة للسلع المستوردة، والتي ما زال التجّار يسددونها في الوقت الراهن حسب سعر الصرف الرسمي القديم.
سعر صرف جديد بالتراضي
باختصار، كل حكاية تعديل الدولار الجمركي تُظهر أنّ ما جرى كان أقرب لبازار نقدي، تقاذف فيه المعنيون –بين الوزارات ولجنة المال والموازنة- الطروحات والأفكار، على أساس تقديرات فرديّة واستنسابيّة. وهذا البازار، خلص إلى دولار جمركي تم التفاهم عليه بالتراضي بين الجهات المعنيّة، وبعد اجتماع وزاري حرص رئيس الحكومة على عقده لتوريط الجميع في القرار المؤلم. مع الإشارة إلى أنّ الإخراج القانوني سيجري من خلال إعطاء الحكومة صلاحيّة تحديد الدولار الجمركي، عبر مادّة خاصّة في موازنة العام 2022، فيما بدأ ميقاتي أساسًا بالتصرّف وكأنّ المجلس النيابي أقرّ الموازنة مع هذا البند.
هذا الأسلوب العشوائي في التعامل مع مبدأ الدولار الجمركي، بات ينبئ اليوم بكارثة لا تُحمد عقباها. فكل ما يرتبط بأسعار الصرف المعتمدة في الموازنة، كان من المفترض أن يتم دراستها على أساس حسابات ومعطيات معقّدة: تبدأ من سيناريوهات نسب التضخّم المتوقّعة، ونسب الانكماش الاقتصادي التي يمكن أن تنتج عن زيادة كل الرسم، وأثر ذلك على كل قطاع من القطاعات الاقتصاديّة، وصولًا إلى مسار توحيد أسعار الصرف والسياسات النقديّة التي يخطط لاعتمادها المصرف المركزي. كما يجب أن تتصل هذه الحسابات بسعر الصرف “الواقعي” الذي يقدّر المصرف المركزي إمكانيّة الوصول إليه، في خلاصة مسار توحيد أسعار الصرف الذي يُفترض أن يكون المصرف المركزي قد خطط له. وكل هذه الحسابات، تتصل حكمًا بالميزانيّة العامّة والأولويّات المحددة فيها، وبما ينسجم أوّلًا مع خطّة التعافي المالي والرهانات التي تقوم عليها.
وبدل أن تكون آليّة تعديل الدولار الجمركي خطوة على طريق توحيد أسعار الصرف، بالتوازي مع إجراءات أخرى تكفل ضبط السعر المعوّم والموحّد، بل وتحدد كيفيّة الوصول إليه، سنكون أمام سعر صرف جديد تم تحديده بالتراضي بين المسؤولين. هكذا، ستكون السياسة الماليّة التي تنتهجها الدولة سببًا إضافيًّا من أسباب الفوضى النقديّة، التي تعبّر عنها خير تعبير ظاهرة أسعار الصرف المتعددة والعبثيّة، والتي غالبًا ما لا يخضع تحديدها لأي معيار اقتصادي واضح باستثناء نتائج تجاذبات أصحاب القرار.
توزيع غير متناسب للخسائر
في عالم أسعار الصرف العبثيّة والمتعددة، كالذي يكرّسه القرار الجديد، يصبح التوزيع غير المتناسب للخسائر سمة من سمات عالم ما بعد الانهيار. فعلى أي أساس مثلًا سيتحمّل عموم المقيمين من محدودي الدخل كلفة هذا التصحيح الضريبي، في حين أن المصارف ما زالت تصرّح حتّى اللحظة عن التزاماتها وإيراداتها بالميزانيّات وفق سعر الصرف الرسمي القديم؟ وكيف سيتم تصحيح سعر الصرف المعتمد لاستيفاء الرسوم، قبل تصحيح سعر الصرف المعتمد في العمليّات المصرفيّة، الذي من شأنه تحميل الرساميل المصرفيّة نصيبها من الخسائر؟ وكيف يتحمّل المقيمون تصحيح سعر الصرف المرتبط بالضرائب، قبل أن يتم تصحيح سعر الصرف المعتمد للسحوبات من الودائع، والمحدد عند مستوى 8000 ليرة للدولار حسب سحوبات التعميم 151، و12000 ليرة للدولار حسب سحوبات التعميم 158؟
في خلاصة الأمر، وبهذه الطريقة، يصبح المطلوب من عالم أسعار الصرف المتعددة إعادة توزيع الخسائر بأدوات السياسة النقديّة، وحسب الأولويّات التي تحددها السلطتين النقديّة والتنفيذيّة. كما يصبح المطلوب التعامل مع هذه الخسائر بقرارات متفرّقة، من دون أهداف اقتصاديّة وماليّة واضحة، ومن دون خطّة ماليّة متكاملة تحدد المتضررين والمستفيدين من كل إجراء بشكل صريح ومعلن.
تضخّم الأسعار والقدرة الشرائيّة
كما هو معلوم، سيضيف التجّار كلفة تصحيح الدولار الجمركي إلى سعر المبيع النهائي للمستهلك، ما سيزيد الأسعار بمستويات متفاوتة حسب نسبة الرسم الجمركي المحددة لكل سلعة، وحسب مصدر السلعة، نظرًا لوجود اتفاقيّات تعفي السلع المصدّرة من بعض الدول من الرسوم الجمركيّة. كما سترتفع الأسعار نتيجة تصحيح سعر الصرف المعتمد لسداد رسم الضريبة على القيمة المضافة، والذي ما زال بعض التجّار يقومون بتسديده وفق سعر الصرف الرسمي، بالرغم من وجود تعاميم سابقة لوزارة الماليّة تفرض سداد هذه الضريبة حسب القيمة الفعليّة لفاتورة البيع النهائيّة بالليرة. وفي النتيجة، يمكن لأسعار بعض السلع أن تتضاعف بعد هذه التطورات، بينما يمكن أن يبقى تأثير القرار محدودًا لبعض السلع المعفيّة من الرسوم الجمركيّة.
وهكذا، ستمثّل هذه التطوّرات سببًا إضافيًّا لزيادة معدلات التضخّم، بالإضافة إلى أسباب أخرى كالتدهور المستمر في سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وارتفاع الأسعار العالميّة. وجميع هذه التحوّلات، ستزيد من الضغط على القيمة الشرائيّة للأجور والرواتب، والتي لا يوجد حتّى اللحظة تصوّر متكامل لكيفيّة تصحيحها. وبما أن السلطة النقديّة لا تملك بدورها رؤية لكيفيّة التعامل مع أزمة سعر الصرف، ما سيبقي معدلات التضخّم في مسار الارتفاع المستمر في المستقبل، فلا يوجد ما نتوقّعه غير الارتفاعات الإضافيّة في معدلات الفقر المدفع.
المصدر : علي نور الدين – المدن