بالصور | تفاصيل موجعة تُروى للمرة الأولى… إصابات الصحافيين بين الوجع الجسدي وثقل الصدمة
لطالما كانت عيون الحقيقة وأقلامها مستهدفة بوقاحة في الحروب والأزمات لإخفاء الحقيقة وتشويه صورة الواقع. ولجأ مغتصب السلطة والمشارك في الحروب على مرّ العقود إلى اجتزاء التفاصيل والمبالغة في شد العصب العاطفي من زاوية واحدة لتبرير العنف والدم والفوضى.
بالأمس كان لنا موعد آخر مع الإجرام، كانت عيون الصحافيين وكاميراتهم تنقل ما تخفيه بعض الوسائل الإعلامية الأخرى بكل موضوعية وأمانة، عندما قررت إسرائيل أن تقول كلمتها بالنار لتقابلها حقيقة مرّة بالدم.
استهدفت إسرائيل طاقماً صحافياً من ثلاث مؤسسات في #علما الشعب، وأسفرت الحادثة الوحشية عن استشهاد المُصور في وكالة “رويترز” الزميل عصام عبدالله بالإضافة إلى إصابة زملاء آخرين وهم: كارمن جوخدار مراسلة قناة “الجزيرة”، كريستينا عاصي مراسلة وكالة الصحافة الفرنسية، مراسلا “رويترز” العراقيان ثائر زهير كاظم وماهر نزيه عبد اللطيف، وإيلي برخيا من قناة “الجزيرة”، ومراسل وكالة “فرانس برس” ديلن كولينز.
تتوالى شهادات الزملاء الذين كانوا حاضرين في جنوب لبنان: وجع، مشاهد مؤلمة، إصابات متفاوتة ودم يروي أرض الوطن.
لغط كبير حصل في مسألة إصابة الزميلتين كارمن جوخدار مراسلة قناة “الجزيرة” وكريستينا عاصي مراسلة وكالة الصحافة الفرنسية وحالتهما الصحية، كلتاهما أصيبتا خلال تأدية واجبهما المهني، وكلتاهما تتحملان الوجع في المستشفى.
ما زالت كريستينا عاصي تخضع منذ ليل أمس إلى عمليات مستمرة نتيجة إصابتها البليغة في قدميها، وفق مصادر مقربة منها، التي أكدت “أننا لا نزال ننتظر الخبر عند انتهائها من كل الجراحات، والأطباء يسعون جاهدين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولا صحة حتى الساعة لخبر بتر قدمها”.
وتحتاج كريستينا إلى الدم وقد نشر أصدقاؤها والمقربون منها الخبر، في انتظار أن تنتصر كما الأطباء على إصابتها من دون أي خسارة.
وخلف الهجوم على الطاقم الصحافي الذي كان متواجداً بالأمس في جنوب لبنان، ظهر وجه آخر لطالما عرفناه خلف الكاميرا وليس أمامها.
وشكّل حضوره ومساعدته علامة فارقة في حياة الجرحى المصابين، إنه روبير غصن الذي كان له الفضل الكبير في عملية إنقاذ كل من الصحافيتين كريستينا عاصي وكارمن جوخدار.
ويروي غصن لـ”النهار” عن تلك اللحظات الصعبة والقاسية التي عاشها بالأمس، يقول: “كان المشهد صادماً وقاسياً جداً. لا يمكن وصف صعوبة ما شاهدناه بعد تعرض الصحافيين للقصف، كان المنظر مؤلماً جداً ولا يمكن لعقل أن يتخيّله. ولن أتحدث أكثر رحمة على روح الشهيد عصام عبدالله، ورأفة بمحبيه وعائلته”.
كان غصن شاهداً على سقوط عصام، وكما يقول: كان عليه أن يفصل مشاعره وعاطفته على حدة، ويواصل مهمته الأساسية والإنسانية في مساعدة زملائه في المهنة. “لقد كسرَنا موت عصام ولكن كان عليّ أن أنقذ الآخرين”.
كان غصن يبعد حوالى 15 متراً عن الطاقم الصحافي الذي استُهدف، وبعد استشهاد عصام، يشير غصن إلى “سماع صوت الزميلة كريستينا عاصي تئن، كانت حالتها صعبة، كنتُ أريدها أن تعيش، هذا كل ما فكرتُ فيه. لذلك قلتُ لها “بدّك تعيشي”، وبدأتُ أتحدث إليها حتى لا تفقد وعيها”.
هذا الحديث الذي دار بيني وبينها كان بهدف ابقائها مستيقظة، وترددت الجملة التي تمّ تداولها “خلّصتِ من عزرائيل بكرا بتشكريني” لترد عليّ كريستينا قائلة “أكيد أكيد”.
سحبها غصن من كتفيها وبدأ يجرها بهدف إنقاذها ونقلها في سيارة الإسعاف.
لكن برأي غصن لم يكن الحديث الذي دار في البداية هو المهم بقدر وعده لها عندما طلبت كريستينا أن ينزع عنها الكاميرا، ليرد قائلاً :”بدك تعيشي وأنا بروح بعطيكِ الكاميرا وبسلمك اياها بإيدك”. هذه الأمانة التي ما زال يحتقظ بها غصن ترافقه كروحه، و”لن أسلم الكاميرا إلا لكريستينا كما وعدتها”.
يدرك غصن تماماً أن ما عاشه بالأمس لن يُمحى بسهولة، هو ما زال مخدراً وستأتي المشاهد تباعاً على ذاكرته ليعيش اللحظات ومشاعره التي فصلها ليكمل رسالته على أرض الواقع.
انتقل غصن إلى الزميلة المراسلة في قناة “الجزيرة” كارمن جوخدار، كانت مصابة أيضاً ولم يكن أمامه كما ذكر “سوى أن أحملها بين يديّ وأركض بها حتى أنقلها في سيارة الإسعاف نفسها التي تنقل كريستينا. لكن وجع كارمن كان مختلفاً، كانت خسارتها وما شهدته هناك أقسى وأفظع من أي آلام جسدية شعرت بها، وكنتُ أعرف وجعها تمام المعرفة، كلنا كنا مفجوعين بخسارة عصام بهذا الشكل المأسوي”.
وعلمت “النهار” من مصادر قريبة من كارمن أنها “مصابة بفخدها الأيمن وقدمها الأيسر، ولقد خضعت لجراحة لإزالة كل الشظايا الموجودة. صحتها الجسدية جيدة، إصابتها طفيفة على خلاف كل ما تمّ تداوله في ساعات الليل الماضية”.
لكن كارمن تعاني من صدمة نفسية قوية لأنها كانت شاهدة على استشهاد عصام أمامها، صحيح أنه كُتب لها الموت وعادت إلى الحياة، إلا انها رأت زميلها يسقط أمامها بدمائه. ويُرجح إطلاق صاروخين إلى مكان تواجد الطاقم الصحفي، حيث أدى الصاروخ الأول إلى استشهاد عصام في حين أدى الصاروخ الثاني إلى إصابة الزملاء الآخرين.
وبالعودة إلى غصن، يصف شعوره “بلوح ثلج” لستُ قادراً على استيعاب كل تلك اللحظات، صحيح أننا رأينا الكثير خلال تأدية مهنتنا، وخضنا تجارب قاسية ومؤلمة، ومع ذلك، هناك مشاعر في داخلي لم تخرج من كبتها وسجنها الداخلي.
ويتحدث غصن عن إصابة الزميل إيلي برخيا من قناة “الجزيرة”، يعترف أنه ” ظنّ أنه متوفٍّ، كان الغبار والنار يملآن المكان. لم أفعل شيئاً سوى إبعاده عن النيران. هذا كل ما فكرتُ به. لأعرف لاحقاً أنه كتب له عمر جديد ونجا من الموت”.
اليوم يُصارع زملاؤنا أوجاعهم وإصاباتهم بعيداً عن عدسة الكاميرات والرسائل المباشرة التي نقلوها إلينا أولاً بأول. على أسرّة المستشفيات يتذكر كل واحد منهم تلك اللحظات القاسية والموجعة، كل واحد يحاول الصمود على طريقته، إلا أن الحقيقة الوحيدة “اننا سنبقى ننقل الصورة كما هي مهما كلّف الأمر”.
المصدر : ليلي جرجس – النهار