الدولة تحلّلت على كلّ المستويات… والأيام الآتية صعبة
بين خطّة طوارئ من دون تمويل لمواجهة حرب محتملة مع العدو الإسرائيلي، وبين مشروع موازنة يحوي عجزًا لا تمويل له، وبين تفريغ مُمنهج لإدارات الدولة ومؤسساتها، أصبح لبنان في مصاف الدول المُتحلّلة فعليًا. مرافق الدولة التي تدر مالًا على الخزينة (نافعة والدوائر العقارية…)، مُتوقّفة بحجج لا تُبرّر بأي شكل من الأشكال توقفها، وحكومة تصريف الاعمال عاجزة عن دفع الكلفة التشغيلية للمرافق العامة، مما يجعلها رهينة الهبات والمساعدات الخارجية! بل أكثر من ذلك تعجز الحكومة عن تأمين الخدمات الأساسية للمواطن اللبناني، وهو ما ينفي علّة وجود السلطة برمّتها، بحسب ما تنصّ عليه النظرية السياسية.
هذا الوضع الذي وصل إليه لبنا،ن هو نتيجة المنهجية المُتبعة في إدارة الدولة على مدى عقود. قرارات كانت (ولا زالت!) تُتخذ من دون دراسات، لمعرفة القرار الأفضل والتحوّط ضد المخاطر الناتجة عن هذه القرارات. ولعل قرار الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية وإعتمادات من خارج الموازنة على مدى إثني عشر عامًا، من أكثر القرارات الكارثية التي أدّت إلى دين عام يفوق التسعين مليار دولار أميركي. أكثر من ذلك قامت حكومة تصريف الاعمال بأخذ قرار التعثّر الإرادي، وعدم دفع إستحقاقات سندات اليوروبوندز، وهو ما أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم بتأكيدٍ من المدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس إبراهيم ، الذي كان في صلب الحدث.
فخلال المؤتمر الصحافي في 9 تشرين الأول 2023 ، الذي نظمته جمعية TRILOGUE برئاسة إيلي مصبوغي رئيس جمعية مراسلي الصحافة الأجنبية في فرنسا، وردًا على سؤال طرحه أحد الموجودين حول إمتلاك اللواء إبراهيم معلومات عن أسباب وأصل تدهور الوضع المالي والمصرفي للبلاد خلال فترة ولايته في المديرية العامة للأمن، قال اللواء إبراهيم في ردٍ مباشر وصريح: «أنا أعتقد أن الجريمة الكبرى التي حصلت هي التوقف عن دفع الديون الذي قمنا به. وقد إتصل بي رياض سلامة آنذاك وقال لي لواء أريد مساعدتك، أترجاك، وأقبل يدك، دعني أدفع الـ 600 مليون دولار التي هي فوائد اليوروبوندز، وأعمل من ستة أشهر لسنة لأفاوض الدائنين لبرمجة الدين عن جديد، حتى لا نصل إلى الوضع الذي وصلنا إليه. قمت بالجولة الواجب قيامي بها، وكان الجميع يريد وقف دفع الدين العام (default)».
وأضاف إبراهيم «الذي إستفاد من التعثّر، والذي عن غباء، اعتقد أنه سيعيد الحكم الإشتراكي أو الشيوعي، كل واحد كان له رأيه. وقلت له (أي لسلامة) أتأسف، لم أستطع لأنه أصلًا لا أستطيع مناقشتهم بالمال، وأنا تحدثت معهم بهذه النظرية أن التعثر سيُخرب البلد. وهذا ما حصل! وبعده علمنا من إستفاد من التعثر، ومن حصد مالًا من هذا التعثّر».
عمليًا، هذا التصريح الذي صدر عن مرجعية أمنية كبيرة في الفترة التي ترافقت مع التعثّر، يجب أن يكون له تبعات قضائية ،خصوصًا من ناحية معرفة أسماء الأشخاص أو المؤسسات التي إستفادت من تعثر دفع الدين العام ومحاسبتهم، في حال إثبات ضلوعهم في أخذ القرار الكارثي. لكن للأسف كلنا يعلم أن مؤسسة القضاء مُعطلة من قبل القوى السياسية، وبالتالي لن يكون له أي تبعات أو تداعيات.
والأصعب في الأمر، أن السلطة السياسية لا تزال حتى الساعة تقوم بأخذ قرارات من دون دراسة تداعيات قرارها، على مثال شطب الدين العام الوارد في الخطّة الحكومية، والذي سيقضي على أي أمل في إستعادة الودائع المصرفية، مع ما له من تداعيات على المدى البعيد. ولا يُحدّثنا أحد عن صندوق إستعادة الودائع، الذي تعمل عليه حكومة تصريف الاعمال من باب أن مشروع موازنة العام 2023 الذي رفضت لجنة المال والموازنة دراسته، يحوي على عجز بأكثر من 40 تريليون ليرة لبنانية، من دون أن يكون له تمويل. مع العلم أن حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري يرفض إقراض الدولة أي قرش من دون قانون. إذًا كيف للحكومة التي تعجز عن تمويل موازنتها أن تُنشئ صندوقا لإستعادة الودائع؟
الأحداث التي تعصف بغزّة، والحرب الضروس التي يقودها جيش الإحتلال ضدّها، يظهر إلى العلن مُعطيات تُشير إلى أن لبنان قادم على مرحلة صعبة إقتصاديًا، بدأت مع مشاكل في التأمين على الطيارات القادمة إلى لبنان، والظاهر أنها ستمتدّ لتشمل الإستيراد. وهو أمرٌ، إن حصل، سيكون له تداعيات على قدرة اللبناني على إستيراد حاجاته الأساسية من محروقات ومواد غذائية وأدوية. أكثر من ذلك، هناك حديث في الكواليس الديبلوماسية عن موجة عقوبات أميركية جديدة ستطال أفراد وكيانات عدّة، وتهدف إلى شلّ قدرة لبنان على التأثير في المعطيات السياسية الإقليمية.
في هذا الوقت، تعمّ الفوضى الحياة الإقتصادية، حيث أن إرتفاع الأسعار خصوصًا أسعار المواد الغذائية، يكوي جيوب المواطنين من دون أن يكون هناك مُبرّر، ومن دون أن يكون هناك محاسبة، نظرًا إلى الحماية التي يتمتّع بها التجّار. فعلى سبيل المثال وبمجرّد الحديث عن مشاكل مُحتملة في التأمين على الإستيراد، إرتفعت الأسعار في حدود العشرة بالمئة.
وقد عملت دولرة الأسعار على إخفاء هذا الإرتفاع، بحكم أن الإرتفاع على السلعة بالمفرق يكون بسنتيمات غير ظاهرة للمواطن، الذي لا يُميّز بالضرورة بين سلعة كلفتها 2.10 دولار و 2.31 دولار.
مع كل هذا، نرى مسؤولين يُدافعون عن قرار وقف دفع سندات اليوروبوندز، وآخرين عن قرار دعم السلع والمواد الغذائية، وآخرين عن قرار التسعير بالدولار، وغيرهم عن قرار دولرة فاتورة الخدمات العامة، وبعضهم يبحث عن طريقة لجلب بواخر فيول، وغيرهم يحاولون فرض ضرائب على القروض الماضية وشطب الدين العام… وتبقى المصالح والتمسّك بالسلطة هي الهم الأول لدى القوى السياسية. أعان الله لبنان!
المصدر : جاسم عجاقة – الديار