فنزويلا تعاند “لعناتها”: هل يتجنب مادورو انقلاب القصر؟ | داليا قانصو
بقلم الاعلامية | داليا قانصو
لم يعد الوقت متاحاً أمام فنزويلا، حتى للبحث عن وزير للتعاسة. تكاتف «اللعنات»، لعنات النفط والسياسة والاقتصاد، وحتى الطبيعة، تضع العالم في حالة ذهول امام ما يحصل في هذا البلد الذي يملك أكبر احتياط للنفط في العالم. رغم ذلك، يختار الرئيس نيكولاس مادورو ألا ينحني، وأن يتفرغ لحالة طوارئ اقتصادية أعلنها ومددها ووسعها، للتصدي لمد يميني يجرف أميركا اللاتينية، إلى الأحضان التي قاومتها. وخلفَ لوحةٍ كبيرة لسيمون بوليفار، لا يزال يفضل أن يخاطب «شعبه»، ليعلن، وتقريباً كل يوم، عن إجراءات جديدة للخروج من الأزمة التي تعصف بالبلاد، منذ وقت ليس بقصير، والأسوأ منذ سنوات طويلة. وتزيد من أرق مادورو اليومي لعنةُ أنه قدم إلى السلطة بعد زعيم يحمل الكثير من الكاريزمية. هو يحاول، ولا ييأس من التأكيد أنه مستمر في «النضال» في وجه «الثورة المضادة». لكن الأحداث الدراماتيكية المتسارعة في أميركا اللاتينية، وفي فنزويلا، تنذر بالأسوأ، وصلاة البابا قد لا تنفع. حتى الآن، محاولات الوساطة باءت بالفشل، وواشنطن باتت تضحك في العلن. لم تعد نهاية الثورة البوليفارية التي أطلقها الزعيم السابق هيوغو تشافيز تهدد فنزويلا، بل قاب قوسين أو أدنى من أن تحصل، نتيجة تراكمات كثيرة، قد يدفع بعضها للتساؤل حول أي نظام من الممكن أن ينجح في وجه الشيطنة الرأسمالية والتحرر الاقتصادي. هنا، واستطراداً، يتوقف المرشح الأميركي «الاشتراكي» إلى الانتخابات الرئاسية بيرني ساندرز، للقول حين يواجَه بصورٍ مواطنيه حول «الثلاجات الفارغة» عند الفنزويليين، إنه معجب أكثر بـ «التجربة الدنماركية»، والمثال الإسكندنافي، وما حصلّه لطبقته العاملة. فهل بالغت فنزويلا في نظام الهيمنة الاجتماعية؟ مؤامرة.. أم تحالف لعنات يعترف الكثيرون بأن تشافيز حقق، أو سعى إلى تحقيق، إصلاحات اجتماعية هامة، وأسهم في تجديد الطبقة الحاكمة، وعمل على القطيعة مع الممارسات السياسية التقليدية بما تعنيه من تعايش مع الفساد، فسجل في رصيده نقاطاً إيجابية يحسب لها حساب، وحاول بناء شبكة واسعة من التحالفات لمقاومة الهيمنة الأحادية لـ «الإمبريالية». ولكن، وعلى غرار البرازيل مثلاً، أُخذ عليه تهميش الطبقة الوسطى لمصلحة الفقراء، ما أدى إلى «الثورة المضادة». رغم ذلك، عندما اندلعت التظاهرات في السنوات الماضية بعد وفاته، كان المشاركون فيها، وفي مقاطعات ظلت محدودة، لا يزالون يصطحبون «خدامهم» معهم للتسوق. فهل تصح نظرية المؤامرة؟ باختصار، يصح الوجهان، وجه الإخفاق، ووجه المؤامرات. لكن مادورو أصيب بالضربة القاضية حين فشل في التعامل مع انهيار أسعار الذهب الأسود، والتي جاءت مفاجئة لدولة تعول عليها بنسبة مئة في المئة، وتغدق بسخاء على فقرائها. حاول مادورو عبثاً إصلاح الوضع، واستنجد بحلفاء كثر، لكن اليمين الفنزويلي كان أسرع في الركوب على ظهر سخطٍ توسع، واستغلته رؤوسٌ، وإعلامٌ دُعِم أميركياً بسخاء، لتظهير صورة عن «الكارثة الاقتصادية»، مع انتشاءٍ واضح بمشاركة شباب من الطبقات الوسطى يطمحون إلى «التغيير». حينها، بدأت المضاربات الرأسمالية على العملة الوطنية، وخفضت الشركات والمصانع انتاجها، بتواطؤ تام مع المعارضة. اليوم، يبدو مادورو الذي هبطت شعبيته إلى مستوى قياسي، امام فرصة وحيدة للإنعاش من بوابة الاقتصاد، فيما تحشد المعارضة لاستكمال انقلابها عليه عبر خطة ثلاثية، تتمحور بالدعوة إلى استفتاء لإقالته، وتكثيف التظاهرات، والتمكن من استصدار تعديل دستوري لتقصير مدة ولايته (وهي خطوة فشلت). في ظل ذلك، تعيش البلاد حالياً وسط استعراض قوة لسلطتَين، سلطات مادورو «الاستثنائية»، والسلطة التشريعية التي تهيمن المعارضة عليها. هذه المعارضة، صرفت واشنطن المليارات لدعمها، رغبةً بالتشفي، عبر القوة الناعمة، من عدو يزعجها في حديقتها الخلفية، ولتستكمل رؤية أحجار الدومينو اليسارية تتساقط في ما تعتبره جزءاً عليه أن يظل تحت جناحيها. ولكن هل هي تريد الانهيار التام لهذا البلد؟ حتى الآن، يبدو أن المسؤولين الأميركيين يفضلون انتقالاً للسلطة على غرار ما حصل في البرازيل، أو هذا أقله ما يتضح من كلامهم المعلن، ومن محاضر جلسات الاستماع للجان المعنية في الكونغرس منذ عامين. لكن تحليلهم يحذر من انقلاب يقول بعضهم إنه قد يكون دموياً. خطة خلاص حتى ذلك الحين، تبقى فنزويلا مفتوحة على جميع الاحتمالات. وللباحث الاقتصادي الأميركي مارك ويسبروت، الخبير في الشأن الفنزويلي، والذي تعتبر مواقفه الأكثر حيادية للباحثين الاميركيين في شأن هذا البلد، أمل ٌ بمحاولة انقاذ أخيرة يجب على كاراكاس أن تعتمدها، ومن باب الاقتصاد، وحتى من دون مساعدة الجسم التشريعي الذي تهيمن عليه المعارضة. في هذا الشأن، يعتبر ويسبروت أن الخطوة الأسرع التي بإمكان السلطة التنفيذية القيام بها، هي إصلاح نظام تبادل العملات الذي يعتبره «المشكلة الأهم». فنظام المضاربة بالعملة في السوق السوداء أغرق الاقتصاد في دوامة فخ «التضخم الاستهلاكي». ولتصحيح ذلك، على الحكومة أن تعود إلى ما فعله تشافيز مرة، في شباط 2002، عبر تعويم سعر الصرف (تعويم حر للبوليفار). يضيف الخبير الأميركي أنه بالنسبة لأسعار النفط، فإن الأصعب «قد مرّ على فنزويلا»، وأن حوالي ربع عائدات النفط الفنزويلي حالياً تذهب إلى تسديد قروض للصين، مشيراً إلى أنه «بالإمكان التوقع أن تقوم بكين بمنح كاراكاس بعض التخفيف على هذه القروض، على الاقل حتى ارتفاع أسعار النفط مجدداً». بالإضافة إلى ذلك، فإن «مصرف ميريل لينش الأميركي يقول إنه لدى الحكومة الفنزويلية حوالي 52 مليارا من الأصول الأجنبية بالإمكان تأمينها أو بيعها، وهو أكثر من كاف لتخفيف الوطأة عن أي عملية انتقال لنظامٍ فاعل لصرف العملة». ولكن، بحسب ويسبروت، فإن دولة مثل فنزويلا لديها تريليونات الدولارات في أصول يرغب بها العالم ـ 300 مليار برميل من احتياطات النفط ومئات مليارات الدولارات من الذهب ـ لا يجب ان تقلق. فبإمكان فنزويلا جمع المال من بيع نفط لن يضخ قبل سنوات من الآن، وعلى المدى الطويل، على فنزويلا أن تنوع مصادر دخلها بعيداً عن الاعتماد على الطاقة. وهنا، يضيف، أن أي استراتيجية لتنويع الاقتصاد يجب ان توفر مالاً للبنية التحتية، فأزمة انقطاع الكهرباء (لها اسباب عدة منها الجفاف) ـ مادورو قلص أيام العمل للمؤسسات العامة والخاصة إلى يومين في الأسبوع حتى أواخر الشهر الحالي بسببها ـ تثبت ضرورة الاهتمام بالبنية التحتية. ويختم الخبير بالقول إن فنزويلا تعاني حالياً تحديات كبيرة، ومنها تصميم المعارضة على إطاحة مادورو بدعم اميركي، ولكن الأهم هو التحدي الاقتصادي الذي بإمكانه قلب المعادلة. نهاية الثورة لكن المحامية الأميركية ـ الفنزويلية وصاحبة كتاب «تشافيز كود»، ايفا غولينجر، والتي كانت من المقربات جداً من حكم هيوغو تشافيز، لديها صورة قاتمة عن الوضع الحالي في فنزويلا، ومن باب السياسة، متنبئة بقدرة أميركا أخيراً على التخلص من الثورة البوليفارية. وتعيد غولينجر أسباب الأزمة الراهنة في فنزويلا، خلال حديث لـ «السفير»، إلى الأيام الأخيرة من عهد تشافيز حين كان يصارع المرض، وفشل حكومته في اتخاذ الإجراءات الاقتصادية اللازمة لمعالجة أزمة كانت بوادرها ظاهرة. وتوضح أن «الكثير من القرارات التي كان يجب اتخاذها في العامين 2012 و2013 لم تتخذ، ما أوصل إلى بعض المشكلات التي وقعنا فيها اليوم. بالإضافة إلى أن مسؤولين فاسدين في إدارة تشافيز استغلوا مرضه وسرقوا الكثير، هي ملايين وملايين الدولارات، ومنهم من غادر بها إلى الخارج، وهو موجود في أميركا، أما مادورو فعندما وصل إلى السلطة لم يسرع هو أيضاً بالقيام بما يجب فعله لمعالجة الأزمة الاقتصادية». وتوضح المحامية الفنزويلية التي ادارت في فترة سابقة صحيفة «كوريو ديل أوروينوسو» الناطقة باللغة الإنكليزية، والتي اعتبرت بوقاً للنظام السابق، كما ساهمت في موقع «فنزويلا أناليزيز دوت كوم»، أن «المعارضة استغلت الوضع الهش بعد وفاة تشافيز للوصول إلى السلطة، فحصلت تظاهرات ومواجهات عنيفة أدت إلى مقتل العشرات، وساعدت الشركات الخاصة المعارضة في ذلك، عبر تكنيز مواد المستهلك الأساسية وافتعال نقص بها ورفع أسعارها، والهدف رفع نسبة الاستياء الشعبي ضد الحكومة». وتوضح أنه «بسبب تكاتف عوامل عدة، الفساد وسرقة الأموال وانخفاض اسعار النفط الذي كانت البلاد غير مهيأة له، وسوء إدارة الحكومة واستغلال المعارضة، وصلنا إلى وضع ينحدر إلى الأسفل بسرعة، واصبح غير قابل للسيطرة. في هذه الأثناء، استغلت واشنطن التي اتبعت لسنوات سياسة «جعل الاقتصاد الفنزولي يصرخ» الفرصة، وفرضت عقوبات على مسؤولين وشركات في البلاد، منها المصرف المركزي، كما ضاعفت تمويلها للمعارضة، في وقت اعلنت بوضوح رغبتها برحيل مادورو». ولكن ما هي السيناريوهات الفنزويلية للمرحلة المقبلة؟ تعتبر غولينجر أنه «حالياً لا يمكن التنبؤ بما سيحصل، فإقالة ديلما روسيف في البرازيل لم تكن متوقعة، وفي الأرجنتين وصل رئيس يميني، وهو تغيير دراماتيكي بعد 13 سنة من حكم آل كريشنر، وقريباً سيغادر رافاييل كوريا منصبه في الإكوادور، والرئيس البوليفي إيفو موراليس لا يمكنه الترشح لولاية جديدة عندما تنتهي ولايته الحالية في 2017. هكذا لم يعد هناك أي مجال للشك بان الريح تسير باتجاه اليمين في أميركا اللاتينية، بعد أكثر من عقد على حكم لليسار وتحالفات استراتيجية في المنطقة». وتضيف انه «فيما يرأس اليوم البرازيل والارجنتين يمينيان وحليفان لواشنطن، فبإمكانهما القيام بخطوات ضد فنزويلا، أو على الاقل الاصطفاف إلى جانب واشنطن، واستخدام الهياكل الإقليمية هنا لدفع مادورو إلى مغادرة السلطة. أما وزير الخارجية الأميركي فكان واضحاً بقوله إن بلاده تدعم تدخلاً اقليمياً لإطاحة مادورو. واليوم تنبأ مسؤولون أميركيون بانقلاب سيحصل في كاراكاس، وأطلقوا عليه اسم انقلاب القصر، حيث سيقوم أحدهم من داخل النظام بالمساعدة على التخلص من الرئيس، ولكن حتى الآن هذا الشيء لم يحصل، وليس هناك إشارات واضحة بأنه سيحصل. ولكن الوضع بأي شكل من الأشكال غير قابل للاستدامة. هناك نقص في كل شيء، في الدواء والغذاء والكهرباء والماء وتقريباً كل شيء. في الواقع، قدم عهد تشافيز الكثير من الخدمات، واليوم ما يحصل هو العكس. لماذا؟ أظن أنه مجموع أشياء كثيرة، منها ما قلص أيضاً هامش الديموقراطية، وجعل من الصعب لهذا النظام حالياً التقدم إلى الامام. وتختم بالقول إنه «مما لا شك فيه أن ما يحصل مكّن الولايات المتحدة أخيراً من تحقيق حلمها: تدمير الثورة البوليفارية».