حريق يحرم أهل الفنار النوم , “بابا في خَطر نِحترق نِحنا ونايمين؟”
“بلكي ولع من جديد”، “يمكن ما نْطفى منيح”، “ماما خلّينا نفِل من المنطقة”، “بابا في خَطر نِحترق نِحنا ونايمين؟”… لم يذق أهالي الفنار طعمَ النوم هذه الليلة، فحتى ساعات الفجر الأولى تسمّروا على شرفاتهم وسطوح أبنيتهم، عينٌ على أرزاقهم وأخرى على معمل للأخشاب والمفروشات تلتهم النيران طبقاته الأربع.كانت الأمور تسير على خير ما يُرام في المنطقة الصناعية في الفنار أمس، الموتورات تصدح في كلّ الاتجاهات، مداخن المعامل تغزو السماء، النسوة منهمكات في إعداد الغداء… إلى أن علت الصرخة قرابة الأولى والعشر دقائق: “معمل عيلة “جلبيان” عم يحترق!|. خبَر لم يتسنَّ لشباب الحيّ تناقله عبر “الواتس آب”، فألسنةُ النيران كانت سبّاقة في معانقة السماء معلنةً وقوع مصيبة.
هلع، ذعر، صراخ، لم يفهم الأهالي ما الذي حدث، سوى أنّ الموظفين في الطابق الأرضي من المعمل الذي يملكه الأخوة الثلاثة بشير، بيار وزكي، هرَعوا إلى الخارج، فيما زملاؤهم في الطبقات العلوية على النوافذ يستنجدون، ومَن عجز عن تمالكِ أعصابه حاولَ رميَ نفسه خارجَ النافذة ليبقى معلّقاً بيدٍ واحدة على “الحفّة”.
في التفاصيل…
تعدّدت الروايات، تشعّبت السيناريوهات في تحليل أسباب اندلاع الحريق. بشير (أحد المالكين) اكتفى بالقول: “ألله يخلّيكي هلّق ما فيّي إحكي مع حدا”، بوَجهٍ شاحب، وهو منهمك في متابعة الوضع الصحّي لموظفيه، والبحث عن المفقودين منهم.
ومِن بين التحليلات، قد يكون “زرزور” سيجارة أشعلَ المعمل، إلّا أنّ هذه النظرية سرعان ما سَقطت، لأنّ تعليمات “المعلم” واضحة، صارمة، “اللي بدّوا يدخّن يضهَر لبرّا”. أمّا السيناريو الثاني والأكثر ترجيحاً، “ماس كهربا”.
فيَروي أحد العاملين الناجين: “كان وقت الغداء ولحسنِ الحظ أنّ العدد الأكبر منّا خرج “ياكل ساندويشي برّا ويدخّن”، إلّا أنّ عطلاً كهربائياً استجدّ في المصعد في الطابق الأوّل، قرب الدرج، وسرعان ما طاولت النيران كابلات الكهرباء، وبدأنا نسمع أصواتاً أقربَ إلى تفجيرات”.
أمّا أحد العمّال القدامى، وقد حضر لمساعدة زملائه ما إن سمعَ بالخبر، فيقول: “عملتُ سنوات هنا، أستغرب كيف اندلعَت النيران وفي كلّ زاوية منه إطفائية، وخراطيم للمياه، فأصحابه ملتزمون أعلى معايير التجهيزات والاحتياطات لمكافحة النيران”.
ويضيف: “لم نعرف كيف ندخل لمساعدة العمّال قبل وصول الدفاع المدني، فعَمدنا إلى الإطفاء بأيدينا واستقدام سلّم من أحد السكّان لنجدتهم، حمداً لله أخرَجنا نحو 10 موظفين”.
“بدّي موت بسوريا”
بأسىً تَحلّقَ نحو 100 عامل حول لقمة عيشهم تحترق، يلقون النظرة الأخيرة على المعمل الذي احتضنَهم وأعال عائلاتهم. وحده محمد (سوري الجنسية) جلسَ في الزاوية مستسلماً لدموعه، ليخرجَ عن صمته غضَباً بعدما رأى الصليبَ الأحمر يقترب وينقل إحدى الجثث المتفحّمة، فيصرخ: “ما بدّي موت هون بدّي فِل ع سوريا موت هونيك”.
وبعدما اقتربنا منه، أخبرَنا أنّ الضحية هو زميله المصري ابراهيم ص. (29 عاماً)، الذي التحقَ بالمعمل منذ نحو 8 أشهر، وقد توفّي بعدما فضّل الصعود لمساعدة زملائه على النجاة بنفسه.
أمّا زميله فيتأمّل الطابق الأخير الذي أشرف بنفسه على استحداثه مع ربّ عمله، فيقول: “ما تهنَّينا فيه، فقد استحدثَ “المعلم” في الطابق الأخير صالة عرض، أنهَينا إعدادَها منذ شهرين، وفيها «بلاوي» من البضاعة يصعب تخمينها”.
تكتيك الإطفاء
بعد الظهر، تضاعفَ خوف الأهالي، “لأنّو بِطفّوا من ميلة بتولع من تاني ميلة”، وبدأ التعب يتسلل إلى بعض الإطفائيين، فيما الجوع يفتك بالبعض الآخر، لذا تمّت الاستعانة بمختلف العناصر والمتطوّعين وبسيارات الإطفاء من خارج بيروت وجبل لبنان.
أمّا بالنسبة إلى تكتيك الإطفاء الذي يتمّ اعتماده في مِثل هذا النوع من الحرائق، فيوضح مدير العمليات في الدفاع المدني جورج أبو موسى، الذي تابَع الإخماد بأدقّ تفاصيله على الأرض: “كانت النيران قد اجتاحت المعمل عندما وصَلنا، لذا توزّعنا قدر المستطاع على الطبقات كافّةً لإخمادها من مصدرها من الخارج، تزامناً مع تبريد ما لم تنَله النيران، تحديداً الطابق الأرضي الذي يحوي موادّ سريعة الاشتعال. ثمّ سننتقل إلى داخل الطبقات ونتأكّد مِن إخماد النيران عبر رشّها بخراطيم”.
ويوضح: “لاحتراق الخشب خصوصية، وهي الأخطر من بين الحرائق التي نواجهها والأصعب إخماداً، ولو أنّ الإطفائية في وسط المعمل لن تتمكّن من إخماد المنشأة في ظلّ وجود “تينر”، ومواد أخرى قابلة للاشتعال”. أمّا عن التجهيزات المستخدمة في حريق الفنار، فليفت إلى أنّ “أكثر من 20 سيارة إطفاء شاركت في الإخماد، ونحو 120 عنصراً من شباب الدفاع المدني”.
أمّا عن الأشخاص الذين تمّ إخراجهم، فيقول: “أنقذ الدفاع المدني 4 سيّدات وشابَّين، ولاحقاً أخرَجنا جثة لأحد الضحايا». ويأسف موسى لتأخّرِ الدفاع المدني في الوصول بسبب الزحمة، قائلاً: «أخّرَت الزحمة وصولَ سيارات الإطفاء، والمؤسف أنّ الدفاع المدني كاليتيم، كلّ الناس «بتخبّطو»، تلومه، فيما الشباب يخاطرون بحياتهم خلال الإطفاء”.
“صناعية أو سكنية؟”
مع هبوط الليل تحوّلَ النقاش بين الأهالي، فيما إذا كانت منطقتهم سكنية أم صناعية، نتيجة المخاطر التي تهدّدهم. فيقول حبيب زعيتر مالك أحد الأبنية المقابلة للمعمل: “سَكنّا المنطقة قبل استحداث هذه الحركة الصناعية هنا والملاصقة للمنازل، والمعمل الذي يحترق ليس الأوّل، فمنذ سنوات معدودة احترقَ المعمل خلفنا، فِعلاً تلك المنشآت قمّة الإزعاج». ليقاطعَه جارُه: «يا زَلمي هي صناعية بَس طفَش السَكن لهون!”.
ضاع الجدل بين الأهالي، لكنّ الخوف لم يُضيّع طريقه، فقد بقيَ يقضّ مضاجعَهم. أمّا العمّال فخوفهم مضاعَف، “من سيلتفت لنا ويعيلنا “مِن بكرا وبالطّالع بعد هالعمر؟”… ودمعة ككُتلةِ نارٍ تدحرجَت بين تجاعيد وجوههم.