“سوسة” برؤوس اللبنانية.. “سارة” تستحم 3 مرات و”مروان” مع نرجيلته
أن تستيقظ يومياً فتشعر أنّك تفقد السيطرة على حياتك، أو أنّك منزعج من أمر ما لا تستطيع أن تحدد هويته، أو أنّ كلّ مشاريعك معطلة بانتظار فعل ما يصحح كلّ شيء، فهي “سوسة” لديك. لدى اللبنانيين العديد من أشكال هذه السوسة. قد لا ترتبط بصباح أو بمساء، وقد لا تكون يومية، لكن لا بدّ من فعلها في وقت محدد أو عند حدث معين حتى تستقيم الحياة وتسلك الأشياء مسارها الطبيعي الملتزم بنظام كوني يشعر الواحد فيه أنّه هو المركز فيه.
السوسة يقترب بها البعض من الوسواس القهري، وهو اضطراب نفسي/سلوكي يفرض على المصاب به أن ينشغل طوال الوقت بمهام غير منجزة في اعتقاده، بالرغم من إنجازها، كحاجته إلى تكرار التأكد من إقفال الأبواب أو غسل اليدين أو غير ذلك.
مثل هذا الوضع تتحدث عنه الثلاثينية العزباء، سارة، بخصوص استحمامها اليومي مرتين وأحياناً ثلاث مرات: “سألتني صديقتي مرة: هل تشعرين أنّك ستموتين إن لم تفعلي ذلك؟ فوافقت، نعم أشعر بذلك، وحتى عندما يكون الماء بارداً في الصقيع لا بدّ من الاستحمام قبل أن أبدأ أيّ شيء”. مثلها خضر (47 عاماً، بائع خضار) الذي يعتبر الأمر بمثابة عادة أن يستحم بالمياه المثلجة صيفاً شتاءً. لكن هل بإمكانه التوقف عن ذلك: “لم أجرب يوماً، ولماذا أتوقف؟ فأنا سعيد بهذا الوضع فهو يبقي جسمي مشدوداً!”. لا يكتفي خضر بذلك، بل يمضي الشتاء بأكمله بملابس بحرية (شورت وبروتيل) وليست صيفية فحسب.
السوسة قد تكون أيضاً نوعاً آخر من الوسواس، وهو الذي يختبره الملتزمون دينياً، خصوصاً في صلواتهم المعرضة لوسوسة الشيطان كما تورد الكتب السماوية.
السوسة الثالثة مختلفة، وهو الاسم المستمد من السوسة، تلك الحشرة الطفيلية التي تنخر النبات والشجر والحبوب حتى تفسدها بالكامل. هو نوع من الإلحاح الداخلي المستمر تجاه فعل معين، وهو فعل يتخذ شكل العادة التي لا مفرّ من أدائها في وقتها كي تنتظم كلّ الأمور الأخرى. لا يشبه الأمر وسواساً قهرياً يؤدي إلى الارتياب في أداء المهام، أو وسوسة الشيطان التي “تلهي عن ذكر الرحمن”. فهي ليست عادة سلبية بالضرورة للشخص أو للمحيطين به، ولو أنّ عدم أدائها في وقتها قد يؤدي إلى ما هو سلبي في تعطيل حياة الشخص إذ يربط كلّ شيء آخر بأدائها.
الإجابة الأولى لدى كثيرين، إذ يُسألون عن سوستهم، هي “فنجان القهوة… إن لم أبدأ يومي به سيختلّ كلّ شيء”. هذه الإجابة عابرة للأعمار والجنسين فكأنّ جرعة الكافيين تلك أهم من الخبز والماء لديهم. لكنّ مروان (32 عاماً) يذهب أبعد من ذلك، فهو يدأب على تناول القهوة تلك بعد أن يضيف إليها نرجيلة لا تفارقه في جلسة شبه يومية منذ أكثر من خمس سنوات على الكورنيش البحري لبيروت، لجهة الرملة البيضاء. تجده أحياناً على رمال الشاطئ، وفي أكثر الأحيان على أحد المقاعد الخشبية، ومعه هاتفه وقهوته ونرجيلته. جلسة يومية يشعر بعدها أنّ في إمكانه متابعة حياته. لكنّه لا ينتبه إلى أنّ تلك الجلسة باتت كلّ حياته فهو عاطل من العمل وينتظر مع نرجيلته فرصة ما.
الكورنيش البحري سوسة ليلى (29 عاماً، أم لطفلين) أيضاً. تأتي إليه مشياً من بيتها غير القريب، لا لتمارس الرياضة هناك شأن آخرين بل لتجلس وتتأمل وتلتقط صوراً وتلتقي بأصدقائها. فماذا لو لم تفعل ذلك: “قد أتعطل عن كلّ شيء خلال النهار وأضع اللوم على من كان السبب في عدم ذهابي، وأنتظر اليوم التالي كي أصحح الأمر”.
بالإضافة إلى الحمّام الصباحي اليومي، فالاتصال في حالة رغدة أساسي. سوستها الاتصال بزوجها المغترب قبل الذهاب إلى العمل فإن لم يتوفر لها ذلك عاشت لحظات عصيبة وقلقة طوال النهار. سوسة زوجها تقرير تقدمه له يومياً عن كلّ حركة قامت بها هي وطفلها خلال النهار. الاتصال أيضاً سوسة رانيا (أم لطفلين) وهو بوالدتها: “لا أتمكن من البدء بعملي قبل أن أتصل بها للاطمئنان، وإن لم يحصل أتكركب (أرتبك)”.
لكنّ لارا (27 عاماً، ممرضة) لها سوسة مختلفة تتعلق بالماكياج اليومي الذي لا بدّ من أن تضعه حتى لو لم تخرج من المنزل أبداً.
البندورة (الطماطم) سوسة سليمة. وعلى غرابة الأمر فتلك الثمرة الحمراء تشكل هوساً بالنسبة لها إذ تلتزم بنظام يومي يحتّم عليها الخروج إلى السوق لأجل اختيار البندورة بنفسها للطبخ. ربما تتعمد اختيار أنواع الطبخ التي تضم البندورة في محتوياتها، وربما تدخل البندورة إلى أنواع أخرى ليست لها علاقة بها عند ربات منازل أخريات. تستخدمها في الطبخ والسلطة والتقديم كما هي وقد تحولها إلى عصير. انقطاع البندورة من الأسواق في يوم ما قد يشكل مأساة لها… لكنّها تستبق هذا الاحتمال بتخزين الكثير من البندورة في الثلاجة بعد تقطيعها ووضعها في مرطبانات.
(العربي الجديد)