“القصّة الكاملة” وراء مقابلة الحريري
لمقابلة التي اُريدَ لها أن تكون منصةً للإجابة على أسئلة كبرى، تحوّلت إلى مادة حُبلى تستولد مزيداً من الأسئلة، فالأسئلة تتراكم وتتراكم من دون إيجاد الترياق المُناسب الذي يؤسس لعلاجٍ شافٍ للداء، ثم خروج الحالة برمّتها من الضبابيّة إلى النور.
الارتباك والضّياع اللذان سادا مُقابلة الرئيس “المستقيل” سعد الحريري، يعكسان من خلف الكواليس، ضياعاً وارتباكاً سعوديين بعد انزلاق الموضوع إلى مكانٍ آخر يختلف عن المسار الذي رُسمَ له واتّضح أنَّ المملكة لم تحسبه، ثم باتَ وضع حد لخروج القضيّة عن السيطرة مُلحاً.
وبدل أن “تزرُك” السعودية الجميع في الزاوية وتجبرهم على استخراج الأسئلة، أصبحت كمثل المُتّهم ــ المجرم ــ الجالس أمام المُحقّقين ويجري استنطاقه، ولا يقوى إلّا على تمرير الاجابات المتناقضة علّها تخرجه من المأزق. وأمام سيل التساؤلات يبدأ المتّهم بالتلعثُم.. ومع تأكده بعدم جدوى ما يقوم به يطلب حضور محامٍ!
حال هذا “المُتّهم” كحال السعوديّة المُتّهمة اليوم بـ”احتجاز رئيس حكومة لبنان الشرعي” ووقائع الاستنطاق أوجبت عليها استجداء محامٍ يتكفّل بالمرافعة عنها علّه ينجح بإخراجها من هذه الدوّامة.
في قراءة محدّدة للمقابلة، أسست لنقاط من الصعب المرور عنها وعدم الاضاءة عليها:
– كان الحريري مرتبك طوال الحلقة ونظراته غير ثابتة
– المضامين الكلاميّة لمّ تكُن مدروسة، وكانت غير متطابقة مع مضمون بيان الاستقالة
– عودته إلى التسوية التي أعلنَ خروجه عنها في ذلك البيان
– تمهيده لعودة هادئة ضمن سقف تسوية مقبول
وبالتالي يُفهم أنَّ السعوديّة لم تعد تستطيع المُضي قدماً أكثر في هذه اللعبة بعد وقوعها في وضع يحصد الخيبات أكثر من حصاد الايجابيات. ولا ينبغي اعتبار أنَّ المُقابلة كانت “مثاليّة” بل إنها شكّلت صدمة ثانية بعد صدمة الاستقالة التي يصفها الحريري “الصدمة الايجابيّة”، تمثلت بشروده وجنوحه الحاد عن القاعدة التي جرى ارساءُها في خطاب “الاستقالة” والتي قيلَ أنّها “رسمت خطوط طول وعرض لشكل العلاقة داخلياً في المرحلة المقبلة”.
وبدا جليّاً أنَّ الحريري لا يُراهن على تصعيد اللهجة خلافاً للبيان السابق، لا بل أنّه شردَ واختلف ولم يتماهى مع بيان اجتماع “كتلة المستقبل” الاخير، وكان كافياً من لغة جسده ونبرة صوته وتلعثمه المتكرّر وانحصار الدمع في عينيه إضافةً لموقع التصوير الغير مجهّز وظهور رجل في خلفيّة “الكادر” يرفع ورقةً مجهولة أقلقته، لتؤكد أنَّ “الرجل” لمّ يكنّ على ما يُرام أبداً. والثابت الوحيد كانت لغة جسده التي لمّ تختلف عن تلك التي شهدها اللبنانيون أثناء تلاوته بيان الاستقالة المكتوب.
خلاصة الموضوع أنَّ السعودية انتقلت من الهجوم إلى الدفاع ثمَ تثبيت ما حصلته في الحد الادنى من مكاسب الاستقالة، وهي “فرملة عهد ميشال عون وحليفه حزب الله” ووضع الحالة اللبنانيّة برمّتها في غرفة “العناية الفائقة” حتى إيجاد “الطبيب” (الصفقة) الجديدة المقبولة التي ستبحث بعض تفاصيلها اليوم في باريس مع الوزير جبران باسيل.
وعلى مستوى ثانٍ، بحثت الرياض عن المحامي المنقذ الذي في يده اخراجها من دائرة الشرود نحو الجزء الوسخ من الطريق.
وما أوجبَ ذلك هو التهديد الروسي بتحويل القضيّة إلى مجلس الأمن. وبحسب أكثر من مصدر مُراقب، لمّ تكن الرياض تتوقع هذه الخطوة أبداً. ثم طريقة تعامل الرئيس ميشال عون مع الازمة، فقد ابتعد عن اتخاذ أي خطوة “استفزازية”، بل فتحَ جسور التواصل مع الجهات المقرّرة التي فهم منها أنَّ “احترام سيادة لبنان يرتبط أيضاً بالعمل على جلاء مصير رئيس وزرائه بشتى السبل”، و “شتى السبل” يعني اللجوء إلى المؤسسات الدولية بكفالة روسيا.
وعلى خطٍ موازٍ، نَشط فريق وزارة الخارجية اللبنانية في عمليّة “تقصّي حقائق” حول مدى امكانية طلب انعقاد اجتماع استثنائي لمجلس الجامعة العربيّة على مستوى وزراء الخارجيّة لبحث الازمة، وهو ما اعتبرته السعودية موجه ضدها، فالتفت على ذلك بأن سبقت لبنان إلى الطلب ودعمتها كل من الإمارات والبحرين.
ويؤكد وزير سابق لـ”ليبانون ديبايت”، أنَّ الدعوة السعودية تضمنت تلويحاً ببحث طلب تجميد عضوية لبنان في جامعة الدول العربية في حال اختار المواجهة مع السعودية، وقد وصل التهديد إلى بيروت عبر أطر دبلوماسية.
وفي حين فهمت مصر ما يحضر، حرص الرئيس عبد الفتّاح السيسي على التدخل الايجابي وتهدئة السعودية، عبر تأكيد أنّ لبنان ليس بوارد “تدويل الأزمة”، ثم إسقاط تهديد “تعليق العضويّة”، ما قاد إلى تأجيل انعقاد “مجلس وزراء خارجية الجامعة” حتى يوم الأحد القادم، افساحاً في المجال أمام بلورة صورة المساعي، على أنّ يصدر بيان لا يختلف عن مضمون بيانات التأييد السابقة للبنان ووقف التدخلات بالبلدان العربيّة!
وبعد وأد المسعى العربي، بقيَ أمام “صنّاع التسوية” أمر واحد هو تبريد المسعى الروسي الزاحف صوب مجلس الأمن. فطلب رفع سقف المواقف الدولية واصدار البيانات من “الخارجيات الاوروبيّة” التي تدعو لاحترام سيادة لبنان وايجاد حلّ سلمي وتضمين البيان الرؤية الاوروبيّة التي تدعم “الكشف عن مصير الحريري”، ما أسسَ لأنَّ تكون هذه البيانات “نماذج دعاية ودعم” للمسار الفرنسي – المصري، ما فرّملَ الاندفاعة الروسيّة، وأخرج السعودية من دائرة التهديد.
في هذا الوقت، طلب من الرئيس سعد الحريري أنَّ يخرج على الهواء مباشرةً في مقابلة تلفزيونيّة للإجابة على أسئلة “دقيقة” يطرحها الشارع اللبناني، لقطع دابرّ التكهّن حول مصيره. وهكذا فعل باختيار استدعاء الزميلة “بولا يعقوبيان” إلى الرياض لإدارة حوار جريء معه يطرح أسئلة تجيب عن تلك التساؤلات، وهو دور نجحت بأدائه على أكمل وجه.
وتقول المصادر، أنَّ ما جاء في المقابلة يسمى في السياسية بـ”الكلام الناعم”، ما يدل على أنَّ الحريري فتحَ باب التفاوض حول عودته من باب “ماذا سيقدم لي من إغراءات لكي أعود؟” تحت سقف ضمان عدم الخروج عن الموجبات التي يريدها ولي العهد محمد بن سلمان.
ويقود كل هذا الكلام معطوفاً على خروج الحريري الهادئ والمهادن إلى تأكيد المؤكد من أنَّ التسوية باقية لكن مع فريق بسيط وهو إجراء هندسة ديكور عليها، وقد مهّد “الرئيس الحريري” لهذه العودة من خلال الهدوء الذي يعكس كلاماً تفاوضياً ارتضت به السعوديّة.
عبدالله قمح | ليبانون ديبايت