عون أمام قمّة اسطنبول | خطوة ترامب تُسقط عن أميركا صفة الدولة العظمى
وصف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون خطوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، بأنّها “بالإضافة إلى كونها تجاوزاً للقوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، فهي تُسقط عن الولايات المتحدة صفة الدولة العظمى التي تعمل على إيجاد حلول تحقق السلام العادل في الشرق الأوسط”، معتبراً أنّه “إذا لم تتصدَّ الأمم المتحدة لهذا القرار فإنّها تتنازل عن دورها كمرجع دولي لحلِّ النزاعات الدولية وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، كما ينصّ ميثاقها، فينتفي بذلك سبب وجودها”.
ودعا عون خلال إلقائه كلمة لبنان في القمة الاستثنائية لـ”منظمة التعاون الإسلامي” في اسطنبول إلى “مقاربة واضحة للحلِّ تقوم على: التقدّم بشكوى عاجلة إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة باسم مجموعة الدول الإسلامية OIC لتعطيل القرار الأميركي وإلزام الولايات المتحدة إلغاءه، والقيام بحملة دبلوماسية لزيادة عدد الدول المعترفة بدولة فلسطين والانتقال إلى اعتبارها دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، مع اتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية والدبلوماسية اللازمة لاعتماد القدس الشرقية عاصمة لها، واتخاذ إجراءات عقابية موحّدة ومتدرجة، دبلوماسية واقتصادية، ضدّ أيّ دولة تنحو منحى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والدعوة المشتركة لشعوب دولنا لتتحرك في بلدانها وأماكن انتشارها لتشكيل قوّة ضغط شعبي تساند ضغطنا السياسي والدبلوماسي، والتمسك بالمبادرة العربية للسلام بكل مندرجاتها من دون انتقاص، والتوافق مع وسيط دولي نزيه للعمل على تفعيلها كي لا يبقى أمامنا سوى العودة عنها، مع ما يترتب عن هذه العودة من تداعيات”.
وفي ما يلي النصّ الكامل لكلمة عون: “أعتقد أنّه لا يمكن أن تصبح فلسطين أبداً دولة يهودية، كما لا يمكن للعالمين المسيحي والإسلامي على حد سواء، أن يُظهرا يوماً استعداداً لوضع أماكنهما المقدسة في عهدة اليهود.
كان من الأكثر رزانة برأيي تأسيس وطن يهودي على أرض غير مثقلة تاريخياً بإرث المسيحية والإسلام…”.
أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والسيادة
اخترت بدء كلمتي بمقتطفات من رسالة سيغموند فرويد، إلى حايم كوفلر، عضو “مؤسّسة إعادة توطين اليهود في فلسطين” وهي تعود إلى 26 شباط من العام 1930، وقد فنّد فيها فرويد تحفظاته على الصهيونية، بعدما كان كوفلر طلب منه المشاركة في الدعاية لها، ولعل أبرز تلك التحفظات يقينه أن العالمين الإسلامي والمسيحي لن يسمحا بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين..
للأسف، كانت توقّعات فرويد في غير محلها، فصمت من صمت وتقاعس من تقاعس وتواطأ من تواطأ، وقامت إسرائيل على أرض فلسطين.
نلتقي اليوم في اجتماعٍ طارئ وفي الواجهة مدينة القدس، وخلف الواجهة أزمة الشرق الأوسط المستمرة منذ عقود وعقود، جذورها تمتد لمئة عام، لإعلان اللورد أرثور جيمس بلفور عن دعم بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. هذا الإعلان – الوعد، نفّذته الأمم المتحدة بعد ثلاثين عاماً، حين أصدرت في العام 1947، وخلافاً لكل المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، قرار تقسيم فلسطين، فكانت التضحية بشعب من أجل حلّ مشكلة شعب آخر. وتحوّل من كان مضطهَداً في أوروبا الى مضطهِدٍ في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن وعد بلفور نصّ بوضوح على عدم الإتيان بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية، إلا أن الإسرائيليين مارسوا أبشع أنواع التطهير العرقي على أرض فلسطين. والمفارقة أن العرب قد يكونون الوحيدين من بين الشعوب لم يشاركوا في اضطهاد اليهود خلال التاريخ، بل على العكس طالما تعايشوا معهم. ومنذ ذلك القرار، والنكبات تلاحقنا، واللا استقرار يخيم على شرقنا.
إنّ إسرائيل اليوم تتصرف عكس مسار التاريخ، وتتحدّى التطور الإنساني والمجتمعي؛ فالفكر الآحادي يسقط في كل العالم، سياسياً كان أو عرقياً أو دينياً، والمجتمعات تسير نحو التعددية. ومع ذلك، تعلن إسرائيل نفسها دولة يهودية، وتحاول التأكيد على ذلك بتهويد القدس وجعلها عاصمتها، وفي ذلك شطبٌ للهوية الجامعة للأرض المقدسة، وإلغاء صريح لرسالتين سماويتين يؤمن بهما أكثر من نصف سكان العالم، ما يشكّل طعنة للحضارة والإنسانية، ستجرّ تهجيراً جديداً، وتطهيراً عرقياً جديداً، وتؤسس لحروب مقبلة. فالقدس، وكل فلسطين، تجمع أقدس معالم المسيحية، وأهم المعالم الإسلامية، وهي محجّة الديانتين الكونيتين، فهل يمكننا تصوّر المسيحيين والمسيحية من دون القدس وبيت لحم وكنيسة المهد وكنيسة القيامة؟ وهل يمكننا تصوّر الإسلام والمسلمين من دون المسجد الأقصى ومقدّسات فلسطين؟
إن الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر اعتباره القدس عاصمةً لإسرائيل، بالإضافة الى كونها تجاوزاً للقوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، فهي تُسقط عن الولايات المتحدة صفة الدولة العظمى التي تعمل على إيجاد حلول تحقق السلام العادل في الشرق الاوسط. وإذا لم تتصدَّ الأمم المتحدة لهذا القرار فإنها تتنازل عن دورها كمرجع دولي لحل النزاعات الدولية وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، كما ينصّ ميثاقها، فينتفي بذلك سبب وجودها.
إن إسرائيل، ومنذ نشوئها حتى اليوم، تعتمد مبدأ القوة وسلب الحقوق والتهجير، مستفيدة من حق الفيتو وممارِسةً الدلع الدولي؛ فالأمم المتحدة التي قسّمت فلسطين لم تنجح يوماً في إدانة فعلية ورادعة لإسرائيل. ولكن على الرغم من كل ذلك ظلت للقدس خصوصيتها في القرارات الدولية، ولم يسبق أن تجرأت أي دولة على المسّ بهيبة هذه المدينة ورمزيتها وقدسيتها.
فالقرار 181، قرار تقسيم فلسطين، الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة في 29 /11/1947 اعتبر أن للقدس وضعاً دولياً خاصاً، وجعل منها كياناً منفصلاً تحت وصاية دولية، أول مقاصدها “حماية المصالح الروحية والدينية الفريدة للمدينة”.
وفي 20/8/1980 صدر عن مجلس الأمن القرار 478 تعقيباً على إقرار “القانون الأساسي” في الكنيست الإسرائيلي الذي يعلن مدينة القدس عاصمة اسرائيل “الكاملة والموحدة”. فنصّ هذا القرار على عدم الاعتراف بالقانون الاسرائيلي واعتباره انتهاكاً للقانون الدولي، ودعا الدول الاعضاء الى عدم الاعتراف به وسحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة المقدسة.
كذلك القرار 2334 الصادر بتاريخ 23/12/2016 عن مجلس الأمن، نصّ أنه لن يعترف بأي تغيّرات في خطوط الرابع من حزيران 1967، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس.
أضف الى ذلك قرارات متتالية للجمعية العامة للأمم المتحدة تؤكّد ضرورة التزام قرارات مجلس الأمن بشأن القدس، وتعتبر “قرار اسرائيل بفرض قوانينها وولايتها وإدارتها على مدينة القدس الشريف غير قانوني ولاغياً
وباطلاً، وليس له اي شرعية على الاطلاق” كما ورد في القرار 52/53 الصادر عن الجمعية العامة في 9 كانون الأول 1997 .
فهل يحق لأي عضو في مجلس الأمن، مهما علا شأنه، أن يلغي منفرداً قراراً لهذا المجلس؟ وهل سيقبل مجلس الأمن بكسر قراراته وهي مُلزمة للدول الأعضاء؟ وهذا إن حصل ألا يشكّل أيضاً إلغاءً لعلّة وجوده؟
وما الذي تغيّر اليوم لتتخذ الولايات المتحدة الأميركية هذا الموقف، متجاوزة القانون الدولي والأمم المتحدة، غير آبهة بحقوق المسلمين والمسيحيين في كل العالم ولا بمشاعرهم، ولا بالتداعيات التي قد تنتج عن ذلك؟
إن الأحداث التي عصفت بالعالمين العربي والإسلامي خلال السنوات الأخيرة، وحال التعثّر والتخبّط التي وقعت فيها شعوبهما، صدّعت العلاقات بين بعض الدول الشقيقة والصديقة، وأرست الحواجز النفسية بينها فتعمّقت الفجوات والشروخ وفُقدت روح التضامن، وتحوّل الصراع العربي-الإسرائيلي، والإسلامي-الإسرائيلي، صراعاً عربياً-عربياً، وإسلامياً-إسلامياً، من خلال تغذية الصراع المذهبي بين السنة والشيعة. ومعلوم أن في التفرقة ضعفاً، وفي الضعف استفراداً، وليس عبثاً أن من أهم أمثالنا العربية “فرّق تسد”.
ومما لا شك فيه أن إسرائيل هي المستفيد الأوحد من هذا الواقع المستجد المؤسف والمؤلم، وما يحصل اليوم هو نتيجة حتمية لانحرافنا عن الهدف .
لقد استشعرت خطورة المرحلة منذ بداياتها ونصحت في كلمتي في القمة العربية منذ أشهر “بوقف الحروب بين الإخوة، والجلوس إلى طاولة الحوار وإلاّ ذهبنا جميعاً عمولة حلّ لم يعد بعيداً، سيفرض علينا”.
وها هو الحل يُفرض، فهل ننتفض في الجولة الأخيرة؟ هل توحّدنا القدس مجدّداً فننقذ تاريخنا وإنساننا وتراثنا، أم نسقط وتسقط معنا القدس وتضيع فلسطين الى الأبد؟
لن ينفع قضيتنا ووحدتنا سوى قرار موحّد واجراءات موحّدة لاستعادة ما خسرنا وما نوشك أن نخسر، لذلك لا بدّ من مقاربة عملية للحل تقوم على:
1- التقدم بشكوى عاجلة إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة باسم مجموعة الدول الإسلامية OIC لتعطيل القرار الأميركي وإلزام الولايات المتحدة إلغاءه.
2- القيام بحملة دبلوماسية تهدف إلى زيادة عدد الدول المعترفة بدولة فلسطين والانتقال إلى اعتبارها دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، مع اتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية والدبلوماسية اللازمة لاعتماد القدس الشرقية عاصمة لها.
3- اتخاذ إجراءات عقابية موحّدة ومتدرجة، دبلوماسية واقتصادية، ضد أي دولة تنحو منحى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
4- الدعوة المشتركة لشعوب دولنا لتتحرك في بلدانها وأماكن انتشارها لتشكيل قوّة ضغط شعبي تساند ضغطنا السياسي والدبلوماسي.
5- التمسك بالمبادرة العربية للسلام بكل مندرجاتها من دون انتقاص، والتوافق مع وسيط دولي نزيه للعمل على تفعيلها كي لا يبقى أمامنا سوى العودة عنها، مع ما يترتب عن هذه العودة من تداعيات.
إن هدفنا يبقى السلام، ولكن، لا سلام من دون عدالة، ولا عدالة من دون احترام الحقوق. وختاما، لا بد لي من توجيه الشكر الى فخامة الرئيس رجب طيب اردوغان على مبادرته بالدعوة الى هذه القمة الاستثنائية التي تتناسب مع دقة واهمية الحدث”.
وكان عون وصل إلى مطار “أتاتورك” العسكري في اسطنبول عند الساعة العاشرة إلا ربعاً صباحاً بتوقيت تركيا (التاسعة إلا ربعاً صباحاً بتوقيت بيروت)، وتوجه فوراً الى مقرّ المؤتمر حيث اخذت الصورة التذكارية لرؤساء الوفود المشاركة، قبل أن يدخل الجميع الى القاعة التي جهّزت لاستضافة رؤساء الدول.
وقد انضم وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل إلى الوفد الرسمي، بعد أن شارك عند الثامنة والنصف صباحاً باجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الاسلامي.
كما ضم الوفد اللّبناني أيضاً أمين عام وزارة الخارجية السفير هاني شميطلي، والقنصل العام للبنان في تركيا بشير عزام.
وبعد انتهاء أعمال المؤتمر، ودّع عون نظيره التركي وتوجه الى مطار “أتاتورك” حيث غادر والوزير باسيل والوفد المرافق تركيا في طريق العودة إلى بيروت.
(لبنان 24)